۶۶۸.كشف الغمّة عن الفرزدق : لَقِيَنِي الحُسَينُ عليه السلام في مُنصَرَفي مِنَ الكوفَةِ ، فَقالَ : ما وَراءَكَ يا أبا فِراسٍ ؟ قُلتُ : أصدُقُكَ ؟ قالَ عليه السلام : الصِّدقُ اُريدُ .
قُلتُ : أمّا القلوبُ فَمَعَكَ ، وأمّا السُّيوفُ فَمَعَ بَني اُمَيَّةَ ، وَالنَّصرُ مِن عِندِ اللَّهِ .
قالَ : ما أراكَ إلّا صَدَقتَ . النّاسُ عَبيدُ المالِ ، وَالدّينُ لَغوٌ ۱ عَلى ألسِنَتِهِم ، يَحوطونَهُ ما دَرَّت ۲ بِهِ معايِشُهُم ، فَإِذا مُحِّصوا ۳
بِالبَلاءِ قَلَّ الدَّيّانونَ . ۴
۶۶۹.الفتوح : سارَ الحُسَينُ عليه السلام حَتّى نَزَلَ الشُّقوقَ ۵ ، فَإِذا هُوَ بِالفَرَزدَقِ بنِ غالِبٍ الشّاعِرِ قَد أقبَلَ عَلَيهِ ، فَسَلَّمَ ، ثُمَّ دَنا مِنهُ فَقَبَّلَ يَدَهُ .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : مِن أينَ أقبَلتَ يا أبا فِراسٍ ؟ فَقالَ : مِنَ الكوفَةِ يَابنَ بِنتِ رَسولِ اللَّهِ ! فَقالَ : كَيفَ خَلَّفتَ أهلَ الكوفَةِ ؟ فَقالَ : خَلَّفتُ النّاسَ مَعَكَ ، وسُيوفَهُم مَعَ بَني اُمَيَّةَ ، وَاللَّهُ يَفعَلُ في خَلقِهِ ما يَشاءُ .
فَقالَ : صَدَقتَ وبَرَرتَ . إنَّ الأَمرَ للَّهِِ يَفعَلُ ما يَشاءُ ، ورَبُّنا تَعالى كُلَّ يَومٍ هُوَ في شَأنٍ ، فَإِن نَزَلَ القَضاءُ بِما نُحِبُّ فَالحَمدُ للَّهِِ عَلى نَعمائِهِ ، وهُوَ المُستَعانُ عَلى أداءِ الشُّكرِ ، وإن حالَ القَضاءُ دونَ الرَّجاءِ ، فَلَم يَعتَدِ مَن كانَ الحَقَّ نِيَّتُهُ .
فَقالَ الفَرَزدَقُ : يَابنَ بِنتِ رَسولِ اللَّهِ ! كَيفَ تَركَنُ إلى أهلِ الكوفَةِ ، وهُم قَد قَتَلُوا ابنَ عَمِّكَ مُسلِمَ بنَ عَقيلٍ وشيعَتَهُ ؟
قالَ : فَاستَعبَرَ الحُسَينُ عليه السلام بِالبُكاءِ ، ثُمَّ قالَ : رَحِمَ اللَّهُ مُسلِماً ، فَلَقَد صارَ إلى رَوحِ اللَّهِ ورَيحانِهِ ، وجَنَّتِهِ ورِضوانِهِ ، أما إنَّهُ قَد قَضى ما عَلَيهِ ، وبَقِيَ ما عَلَينا .
قالَ : ثُمَّ أنشَأَ الحُسَينُ عليه السلام يَقولُ :
وإن تَكُنِ الدُّنيا تُعَدُّ نَفيسَةًفَدارُ ثَوابِ اللَّهِ أعلى وأنبَلُ
وإن تَكُنِ الأَبدانُ لِلمَوتِ اُنشِئَتفَقَتلُ امرِىً بِالسَّيفِ فِي اللَّهِ أفضَلُ
وإن تَكُنِ الأَرزاقُ رِزقاً مُقَدَّراًفَقِلّةُ حِرصِ المَرءِ فِيالرِّزقِ أجمَلُ
وإن تَكُنِ الأَموالُ لِلتَّركِ جَمعُهافَما بالُ مَتروكٍ بِهِ الخَيرُ يُبخَلُ
قالَ : ثُمَّ وَدَّعَهُ الفَرَزدَقُ في نَفَرٍ مِن أصحابِهِ ، ومَضى يُريدُ مَكَّةَ ، فَأَقبَلَ عَلَيهِ ابنُ عَمٍّ لَهُ مِن بَني مُجاشِعٍ ، فَقالَ : أبا فِراسٍ ! هذَا الحُسَينُ بنُ عَلِيٍّ عليه السلام .
فَقالَ الفَرَزدَقُ : هذَا الحُسَينُ ابنُ فاطِمَةَ الزَّهراءِ بِنتِ مُحَمَّدٍ صلى اللَّه عليه وآله ، هذا وَاللَّهِ ابنُ خيرَةِ اللَّهِ ، وأفضَلُ مَن مَشى عَلى وَجهِ الأَرضِ بَعدَ مُحَمَّدٍ صلى اللَّه عليه وآله ، وقَد كُنتُ قُلتُ فيهِ أبياتاً قَبلَ اليَومِ ، فَلا عَلَيكَ أن تَسمَعَها .
فَقالَ لَهُ ابنُ عَمِّهِ : ما أكرَهُ ذلِكَ يا أبا فِراسٍ ، فَإِن رَأَيتَ أن تُنشِدَني ما قُلتَ فيهِ .
فَقالَ الفَرَزدَقُ : نَعَم ، أنَا القائِلُ فيهِ وفي أبيهِ وأخيهِ وجَدِّهِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيهِم هذِهِ الأَبياتِ ۶ :
هذَا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُوَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ اللَّهِ كُلِّهِمُهذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطّاهِرُ العَلَمُ
هذا حُسَينٌ رَسولُ اللَّهِ والِدُهُأمسَت بِنورِ هُداهُ تَهتَدِي الاُمَمُ
هذَا ابنُ فاطِمَةَ الزَّهراءِ عِترَتُهافي جَنَّةِ الخُلدِ مَجرِيّاً بِهَا القَلَمُ
إذا رَأَتهُ قُرَيشٌ قالَ قائِلُهاإلى مَكارِمِ هذا يَنتَهِي الكَرَمُ
يَكادُ يُمسِكُهُ عِرفانُ راحَتِهِرُكنُ الحَطيمِ إذا ما جاءَ يَستَلِمُ
بِكَفِّهِ خَيزُرانٌ ريحُهُ عَبِقٌبِكَفِّ أروَعَ في عِرنينِهِ۷شَمَمُ
يُغضي حَياءً ويُغضي مِن مَهابَتِهِفَلا يُكَلِّمُ إلّا حينَ يَبتَسِمُ
يَنشَقُّ نورُ الدُّجى عَن نورِ غُرَّتِهِكَالشَّمسِ تَنجابُ عَنإشراقِهَا الظُّلَمُ
مُشتَقَّةٌ مِن رَسولِ اللَّهِ نَبعَتُهُطابَت أرومَتُهُ وَالخيمُ والشِّيَمُ
في مَعشَرٍ حُبُّهُم شُكرٌ وبُغضُهُمُكُفرٌ وقُربُهُم مَنجى ومُعتَصَمُ
يُستَدفَعُ الضُّرُّ وَالبَلوى بِحُبِّهِمُويَستَقيمُ بِهِ الإِحسانُ وَالنِّعَمُ
إن عُدَّ أهلُ النَّدى كانوا أئَمَّتَهُمأو قيلَ : مَن خَيرُ أهلِ الأَرضِ قيلَ : هُمُ
لا يَستَطيعُ جَوادٌ بَعدَ جودِهِمُولا يُدانيهِمُ قَومٌ وإن كَرُموا
بُيوتُهُم مِن قُرَيشٍ يُستَضاءُ بِهافِي النّائِباتِ وعِندَ الحُكمِ إن حَكَموا
فَجَدُّهُ مِن قُرَيشٍ في أرومَتِهامُحَمَّدٌ وعَلِيٌّ بَعدَهُ عَلَمُ
قالَ : ثُمَّ أقبَلَ الفَرَزدَقُ عَلَى ابنِ عَمِّهِ فَقالَ : وَاللَّهِ لَقَد قُلتُ فيهِ هذِهِ الأَبياتِ غَيرَ مُتَعَرِّضٍ إلى مَعروفِهِ ، غَيرَ أنّي أرَدتُ اللَّهَ وَالدّارَ الآخِرَةَ . ۸
1.اللَّغْوَ واللّغى : السَّقط وما لا يُعتدّ به من الكلام وغيره ، ولا يُحصل منه على فائدة ولا نفع ، وكاللغوى ؛ وهو ما كان من الكلام غير معقود عليه (تاج العروس : ج ۲۰ ص ۱۵۴ «لغو») وفي بعض النقول «لعقٌ على ألسنتِهم» ، وهو على الاستعارة ، مِن لَعِقَه لَعقاً : أي لَحسَهُ ، أي إنّ الدين لم يتجاوز ألسنتهم .
2.درّ اللبن : إذا زاد وكثر (مجمع البحرين : ج ۱ ص ۵۸۷ «درر») .
3.التمحيص : الابتلاء والاختبار (الصحاح : ج ۳ ص ۱۰۵۶ «محص») .
4.كشف الغمّة : ج ۲ ص ۲۴۴ ، الحدائق الورديّة : ج ۱ ص ۱۱۳ عن الطرمّاح الطائي الشاعر نحوه ، بحار الأنوار : ج ۴۴ ص ۱۹۵ ح ۹ ؛ بغية الطلب في تاريخ حلب : ج ۶ ص ۲۶۱۳ ، بستان الواعظين : ص ۲۶۲ كلاهما نحوه .
5.شُقُوق : منزل بطريق مكّة بعد واقصة من الكوفة وبعدها تلقاء مكّة بطان (معجم البلدان : ج ۳ ص ۳۵۶) وراجع : الخريطة رقم ۳ في آخر الكتاب .
6.المشهور أنّه قالها في مدح الإمام زين العابدين عليه السلام وقصّتها معروفة (راجع : الإرشاد : ج ۲ ص ۱۵۱) .
7.العِرنين من كلّ شيء : أوّله ، ومنه عرنين الأنف ، لأوّله ؛ وهو ما تحت مجتمع الحاجبين ، وهو موضع الشمّ (مجمع البحرين : ج ۲ ص ۱۲۰۴ «عرن») .
8.الفتوح : ج ۵ ص ۷۱ ، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : ج ۱ ص ۲۲۳ ، مطالب السؤول : ص ۷۳ و ۷۴ ؛ كشف الغمّة : ج ۲ ص ۲۳۹ و ص ۲۵۵ كلّها نحوه وراجع : المناقب لابن شهرآشوب : ج ۴ ص ۹۵ .