۷۱۰.الفتوح- في ذِكرِ ماجَرى بَينَ الإِمامِ وبَينَ الحُرِّ بنِ يَزيدَ الرِّياحِيِّ -: وإذَا الحُرُّ بنُ يَزيدَ في ألفِ فارِسٍ مِن أصحابِ عُبَيدِ اللَّهِ بنِ زِيادٍ ، شاكينَ فِي السِّلاحِ ، لا يُرى مِنهُم إلّا حَماليقُ الحَدَقِ ۱ ، فَلَمّا نَظَرَ إلَيهِمُ الحُسَينُ عليه السلام وَقَفَ في أصحابِهِ ، ووَقَفَ الحُرُّ بنُ يَزيدَ في أصحابِهِ .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : أيُّهَا القَومُ ! مَن أنتُم ؟ قالوا : نَحنُ أصحابُ الأَميرِ عُبَيدِ اللَّهِ بنِ زِيادٍ .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : ومَن قائِدُكُم ؟ قالوا : الحُرُّ بنُ يَزيدَ الرِّياحِيُّ .
قالَ : فَناداهُ الحُسَينُ عليه السلام : وَيحَكَ يَابنَ يَزيدَ ! ألَنا أم عَلَينا ؟ فَقالَ الحُرُّ : بَل عَلَيكَ أبا عَبدِ اللَّهِ !
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : لا حَولَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ .
قالَ : ودَنَت صَلاةُ الظُّهرِ ، فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام لِلحَجّاجِ بنِ مَسروقٍ : أذِّن - رَحِمَكَ اللَّهُ - وأقِمِ الصَّلاةَ حَتّى نُصَلِّيَ ! قالَ : فَأَذَّنَ الحَجّاجُ ، فَلَمّا فَرَغَ مِن أذانِهِ صاحَ الحُسَينُ عليه السلام بِالحُرِّ بنِ يَزيدَ فَقالَ لَهُ : يَابنَ يَزيدَ ! أتُريدُ أن تُصَلِّيَ بِأَصحابِكَ واُصَلِّيَ بِأَصحابي ؟
فَقالَ لَهُ الحُرُّ : بَل أنتَ تُصَلّي بِأَصحابِكَ ونُصَلّي بِصَلاتِكَ .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام لِلحَجّاجِ بنِ مَسروقٍ : أقِمِ الصَّلاةَ ! فَأَقامَ ، وتَقَدَّمُ الحُسَينُ عليه السلام فَصَلّى بِالعَسكَرَينِ جَميعاً . فَلَمّا فَرَغَ مِن صَلاتِهِ وَثَبَ قائِماً ، فَاتَّكَأَ عَلى قائِمَةِ سَيفِهِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ :
أيُّهَا النّاسُ ! إنَّها مَعذِرَةٌ إلَى اللَّهِ وإلى مَن حَضَرَ مِنَ المُسلِمينَ ، إنّي لَم أقدَم عَلى هذَا البَلَدِ حَتّى أتَتني كُتُبُكُم ، وقَدِمَت عَلَيَّ رُسُلُكُم أنِ اقدَم إلَينا إنَّهُ لَيسَ عَلَينا إمامٌ ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أن يَجمَعَنا بِكَ عَلَى الهُدى . فَإِن كُنتُم عَلى ذلِكَ فَقَد جِئتُكُم ، فَإِن تُعطوني ما يَثِقُ بِهِ قَلبي مِن عُهودِكُم ومِن مَواثيقِكُم دَخَلتُ مَعَكُم إلى مِصرِكُم ، وإن لَم تَفعَلوا وكُنتُم كارِهينَ لِقُدومي عَلَيكُمُ ، اِنصَرَفتُ إلى المَكانِ الَّذي أقبَلتُ مِنهُ إلَيكُم .
قالَ : فَسَكَتَ القَومُ عَنهُ ولَم يُجيبوا بِشَيءٍ ، وأمَرَ الحُرُّ بنُ يَزيدَ بِخَيمَةٍ لَهُ فَضُرِبَت ، فَدَخَلَها وجَلَسَ فيها . فَلَم يَزَلِ الحُسَينُ عليه السلام واقِفاً مُقابِلَهُم وكُلُّ واحِدٍ مِنهُم آخِذٌ بِعِنانِ فَرَسِهِ... .
قالَ : ودَنَت صَلاةُ العَصرِ فَأَمَرَ الحُسَينُ عليه السلام مُؤَذِّنَهُ فَأَذَّنَ وأقامَ الصَّلاةَ ، وتَقَدَّمَ الحُسَينُ عليه السلام فَصَلّى بِالعَسكَرَينِ، فَلَمّا انصَرَفَ مِن صَلاتِهِ وَثَبَ قائِماً عَلى قَدَمَيهِ، فَحَمِدَاللَّهَ وأثنى عَلَيهِ، ثُمَّ قالَ:
أيُّهَا النّاسُ ! أنَا ابنُ بِنتِ رَسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله ، ونَحنُ أولى بِوِلايَةِ هذِهِ الاُمورِ عَلَيكُم مِن هؤُلاءِ المُدَّعينَ ما لَيسَ لَهُم ، وَالسّائِرينَ فيكُم بِالظُّلمِ وَالعُدوانِ ، فَإِن تَثِقوا بِاللَّهِ وتَعرِفُوا الحَقَّ لِأَهلِهِ فَيَكونُ ذلِكَ للَّهِِ رِضىً ، وإن كَرِهتُمونا وجَهِلتُم حَقَّنا ، وكانَ رَأيُكُم عَلى خِلافِ ما جاءَت بِهِ كُتُبُكُم ، وقَدِمَت بِهِ رُسُلُكُم ، اِنصَرَفتُ عَنكُم .
قالَ : فَتَكَلَّمَ الحُرُّ بنُ يَزيدَ بَينَهُ وبَينَ أصحابِهِ ، فَقالَ : أبا عَبدِ اللَّهِ ! ما نَعرِفُ هذِهِ الكُتُبَ ، ولا مَن هؤُلاءِ الرُّسُلُ ؟
قالَ : فَالتَفَتَ الحُسَينُ عليه السلام إلى غُلامٍ لَهُ يُقالُ لَهُ : عُقبَةُ بنُ سَمعانَ ، فَقالَ : يا عُقبَةُ ! هاتِ الخُرجَينِ اللَّذَينِ فيهِمَا الكُتُبُ ، فَجاءَ عُقبَةُ بِكُتُبِ أهلِ الشّامِ ۲ وَالكوفَةِ ، فَنَثَرَها بَينَ أيديهِم ثُمَّ تَنَحّى ، فَتَقَدَّموا ونَظَروا إلى عُنوانِها ، ثُمَّ تَنَحَّوا .
فَقالَ الحُرُّ بنُ يَزيدَ : أبا عَبدِ اللَّهِ ! لَسنا مِنَ القَومِ الَّذينَ كَتَبوا إلَيكَ هذِهِ الكُتُبَ ، وقَد اُمِرنا إن لَقيناكَ لا نُفارِقُكَ حَتّى نَأتِيَ بِكَ عَلَى الأَميرِ .
فَتَبَسَّمَ الحُسَينُ عليه السلام ثُمَّ قالَ : يَابنَ يَزيدَ ! أوَ تَعلَمُ أنَّ المَوتَ أدنى إلَيكَ مِن ذلِكَ ، ثُمَّ التَفَتَ الحُسَينُ عليه السلام فَقالَ : اِحمِلُوا النِّساءَ لِيَركَبوا ، حَتّى نَنظُرَ مَا الَّذي يَصنَعُ هذا وأصحابُهُ !
قالَ : فَرَكِبَ أصحابُ الحُسَينِ عليه السلام وساقُوا النِّساءَ بَينَ أيديهِم ، فَقَدِمَت خَيلُ الكوفَةِ حَتّى حالَت بَينَهُم وبَينَ المَسيرِ ، فَضَرَبَ الحُسَينُ عليه السلام بِيَدِهِ إلى سَيفِهِ ثُمَّ صاحَ بِالحُرِّ : ثَكِلَتكَ اُمُّكَ ! مَا الَّذي تُريدُ أن تَصنَعَ ؟
فَقالَ الحُرُّ : أما وَاللَّهِ لَو قالَها غَيرُكَ مِنَ العَرَبِ لَرَدَدتُها عَلَيهِ كائِناً مَن كانَ ، ولكِن لا وَاللَّهِ ما لي إلى ذلِكَ سَبيلٌ مِن ذِكرِ اُمِّكَ ، غَيرَ أنَّهُ لا بُدَّ أن أنطَلِقَ بِكَ إلى عُبَيدِ اللَّهِ بنِ زِيادٍ .
فَقالَ لَهُ الحُسَينُ عليه السلام : إذَن وَاللَّهِ لا أتبَعُكَ أو تَذهَبَ نَفسي .
قالَ الحُرُّ : إذَن وَاللَّهِ لا اُفارِقُكَ أو تَذهَبَ نَفسي وأنفُسُ أصحابي !
قالَ الحُسَينُ عليه السلام : بَرِّز أصحابي وأصحابَكَ وَابرُز إلَيَّ ، فَإِن قَتَلتَني خُذ بِرَأسي إلَى ابنِ زِيادٍ ، وإن قَتَلتُكَ أرَحتُ الخَلقَ مِنكَ .
فَقالَ الحُرُّ : أبا عَبدِ اللَّهِ ! إنّي لَم اُؤمَر بِقَتلِكَ ، وإنَّما اُمِرتُ ألّا اُفارِقَكَ أو اقدَمَ بِكَ عَلَى ابنِ زِيادٍ ، وأنَا وَاللَّهِ كارِهٌ إن يَبتَلِيَنِيَ ۳ اللَّهُ بِشَيءٍ مِن أمرِكَ ، غَيرَ أنّي قَد أخَذتُ بِبَيعَةِ القَومِ وخَرَجتُ إلَيكَ ، وأنَا أعلَمُ أنَّهُ لا يُوافِي القِيامَةَ أحَدٌ مِن هذِهِ الاُمَّةِ إلّا وهُوَ يَرجو شَفاعَةَ جَدِّكَ مُحَمَّدٍ صلى اللَّه عليه وآله ، وأنَا خائِفٌ إن أنَا قاتَلتُكَ أن أخسَرَ الدُّنيا وَالآخِرَةَ ، ولِكن أنَا - أبا عَبدِ اللَّهِ - لَستُ أقدِرُ الرُّجوعَ إلَى الكوفَةِ في وَقتي هذا ، ولكِن خُذ عَنّي هذَا الطَّريقَ وَامضِ حَيثُ شِئتَ ، حَتّى أكتُبَ إلَى ابنِ زِيادٍ أنَّ هذا خالَفَني فِي الطَّريقِ فَلَم أقدِر عَلَيهِ ، وأنَا أنشُدُكَ اللَّهَ في نَفسِكَ .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : يا حُرُّ ! كَأَنَّكَ تُخبِرُني أنّي مَقتولٌ ! فَقالَ الحُرُّ : أبا عَبدِ اللَّهِ ! نَعَم ، ما أشُكُّ في ذلِكَ إلّا أن تَرجِعَ مِن حَيثُ جِئتَ .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : ما أدري ما أقولُ لَكَ ، ولكِنّي أقولُ كَما قالَ أخُو الأَوسِ حَيثُ يَقولُ :
سَأَمضيوما بِالمَوتِ عارٌ عَلَىالفَتىإذا ما نَوى خَيراً وجاهَدَ مُسلِما
وواسَى الرِّجالَ الصّالِحينَ بِنَفسِهِوفارَقَ مَذموماً وخالَفَ مُجرِما
اُقَدِّمُ نَفسي لا اُريدُ بَقاءَهالِتَلقى خَميساً۴فِي الوَغاءِ عَرَمرَما۵
فَإِن عِشتُ لَم أندَم۶وإن مِتُّ لَم اُذَمّكَفى بِكَ ذُلّاً أن تَعيشَ مُرَغَّما .۷
1.حِملاق العين : باطن أجفانها الذي يُسوّد بالكحلة ، أو ما غطّته الأجفان من بياض المُقلة ... والجمع : حَماليقُ . والحَدَقَة: سواد العين ، والجمع : حَدَقٌ (القاموس المحيط : ج ۳ ص ۲۲۴ «حملق» وص ۲۱۹ «حدق») . والمراد أنّه لا يُرى منهم سوى عيونهم ؛ لما لبسوه من لباس حرب ، ولكثرة ما عليهم من سلاح وأعتدة .
2.ليس في سائر المصادر الإشارة إلى أهل الشام ، والظاهر أنّه الصواب .
3.في المصدر : «سلبني» ، والتصويب من المصادر الاُخرى .
4.الخَمِيسُ : الجيش . وقيل : الجيش الجرّار (لسان العرب : ج ۶ ص ۷۰ «خمس») .
5.العَرَمْرَمُ : الشديد والجيش الكثير (القاموس المحيط : ج ۴ ص ۱۴۹ «عُرام») .
6.في المصدر : «لم اُلَم» ، وما أثبتناه هو الصحيح وبه يستقيم الوزن ، وكما في المصادر الاُخرى .
7.الفتوح : ج ۵ ص ۷۶ ، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : ج ۱ ص ۲۳۰ نحوه وراجع : المنتظم : ج ۵ ص ۳۳۵ وتذكرة الخواصّ : ص ۲۴۰ .