وقال بعضهم : لأن أجمع عنديأربعين ألف دينار حتَّى أموت عنها أحبُّ إليَّ من فقر يوم وذلٍّ في سؤال الناس ، وواللَّه ما أدري ماذا يقع منّي لو ابتُليت ببليَّة من فقر أو مرض ، فلعلِّي أكفر ولا أشعر ، فلذلك قال : «كادَ الفَقرُ أن يَكونَ كُفراً» لأ نّه يحمل المرء على كلِّ صعب وذَلول ، وربّما يؤدِّيه إلَى الاعتراض على اللَّه والتصرُّف في ملكه . والفقر نعمة من اللَّه داعٍ إلى الإنابة والالتجاء إليه والطلب منه ، وهو حلية الأنبياء وزينة الأولياء وزيُّ الصلحاء ، ومن ثمَّ ورد خبرٌ : «إذا رَأيتَ الفَقرَ مُقبِلاً فقل : مَرحَباً بشِعارِ الصالِحينَ» ، فهو نعمة جليلة ، بَيد أ نّه مُولم شديد التحمُّل .
قال الغزاليُّ : هذا الحديث ثناء علَى المال ، ولا تقف على وجه الجمع بين المدح والذمِّ إلّا بأن تعرف حكمة المال ومقصوده وفوائده وغوائله ؛ حتّى ينكشف لك أ نّه خيرٌ من وجه شرٌّ من وجه ، وليس بخيرٍ محض ولا بشرٍّ محض ، بل هو سبب للأمرين معاً : يُمدح مرّة ويُذمُّ مرّة ، والبصير المميِّز يدرك أنَّ الممدوح منه غير المذموم .
وقال بعض أصحابنا في الدعاء : نعوذُ بكَ من الفَقر والقِلَّة ، قيل : الفقر المستعاذ منه إنّما هو فقر النَّفس الذي يُفضي بصاحبه إلى كفران نعم اللَّه ونسيان ذكره ، ويدعوه إلى سدِّ الخلَّة بما يتدنَّس به عِرضه ويثلم به دينُه ، والقلَّة تُحمَل على قلَّة الصبر أو قلَّة العدد . وفي الخبر أ نّه صلى اللَّه عليه وآله تعوَّذ من الفقر ، وقال : «الفقرُ فَخرِي وبهِ أفتَخِرُ على سائرِ الأنبياءِ» . وقد جُمع بين القولين بأنَّ الفقر الذي تعوَّذ منه صلى اللَّه عليه وآله الفقر إلَى الناس والذي دون الكفاف ، والذي افتخر به الفقرُ إلَى اللَّه تعالى ، وإنّما كان هذا فخراً له على سائر الأنبياء مع مشاركتهم له فيه ؛ لأنَّ توحيده واتِّصاله بالحضرة الإلهيّة وانقطاعه إليه كان في الدرجة التي لم يكن لأحد مثلها في العلوِّ ، ففقرُه إليه كان أتمَّ وأكمل من فقر سائر الأنبياء .