وقال الكرمانيُّ في شرح البخاريِّ في قوله صلى اللَّه عليه وآله : «أعوذُ بكَ مِن الفَقرِ» : استدلَّ به على تفضيل الغِنى ، وبقولِهِ تعالى : (إنْ تَرَكَ خيراً)۱ أي مالاً ، وبأ نّه صلى اللَّه عليه وآله تُوفِّي على أكمل حالاته ، وهو مُوسِر بما أفاء اللَّه عليه وبأنَّ الغني وصف للحقِّ ، وحديث : «أكثَرُ أهلِ الجَنَّةِ الفُقَراءُ» ، إخبار عن الواقع ، كما يقال : أكثر أهل الدنيا الفقراء ، وأمّا تركه الطيّبات ، فلأنّه لم يرض أن يستعجل من الطيّبات .
وأجاب الآخرون بأ نّه إيماء إلى أنَّ علّة الدخول الفقر ، وتركه الطيّبات يدلُّ على فضل الفقر ، واستعاذته من الفقر مُعارَض باستعاذته من الغنى ، ولانزاع في كون المال خيراً بل في الأفضل، وكان عند وفاته صلى اللَّه عليه وآله درعه مرهوناً، وغنى اللَّه تعالى بمعنىً آخر . انتهى.
وذهب أكثرهم إلى أنَّ الكفاف أفضل من الغنى والفقر فإنّه سالم من آفاتهما ، وليس ببعيد .
وقال بعضهم : هذا كلُّه صحيح لكن لا يدفع أصل السؤال في أيّهما أفضل الغنى أو الفقر ؟ لأنَّ النزاع إنّما ورد في حقِّ من اتَّصف بأحد الوصفَين أيُّهما في حقِّه أفضل . وقيل : إنَّ السؤال أيُّهما أفضل لايستقيم ؛ لاحتمال أن يكون لأحدهما من العمل الصالح ماليس للآخر ، فيكون أفضل ، وإنّما يقع السؤال عنهما إذا استوَيا بحيث يكون لكلٍّ منهما من العمل ما يقاوم به عمل الآخر، فتعلم أيُّهما أفضل عنداللَّه ، ولذا قيل : صورة الاختلاف في فقير ليس بحريص ، وغنيٍّ ليس بمُمسِك ؛ إذ لايخفى أنَّ الفقير القانع أفضل من الغنيِّ البخيل ، وأنّ الغنيَّ المُنفِق أفضل من الفقير الحريص ، قالَ : وكلُّ ما يراد لغيره ولايراد لعينه ينبغي أن يضاف إلى مقصوده فيه ليظهر فضله ، فالمال ليس محذوراً لعينه ، بل لكونه قد يعوق عن اللَّه ، وكذا العكس ، فكم من غنيٍّ لم يشغله غناه عن اللَّه ، وكم من فقير شغله فقره عن اللَّه .