لكنّ الإشراف على حقيقة معانيها ولُبِّ مقاصدها، خاصّة لأهل العلم ممّن يعقل حقائق الاُمور ولاينجمد على ظواهرها . والدليل على هذا المعنى قوله : (وما يَعْقِلُها) دون أن يقول : ومايؤمن بها أو ما في معناه .
فالأمثال المضروبة في كلامه تعالى يختلف النّاس في تلقّيها باختلاف أفهامهم ، فمن سامعٍ لا حظّ له منها إلّا تلقّي ألفاظها وتصوُّر مفاهيمها الساذجة من غير تعمّقٍ فيها وسبرٍ لأغوارها ، ومن سامع يتلقّى بسمعه ما يسمعه هؤلاء ثمّ يغور في مقاصدها العميقة ويعقل حقائقها الأنيقة .
وفيه تنبيهٌ على أنّ تمثيل اتّخاذهم أولياء من دون اللَّه باتّخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت ليس مجرّد تمثيلٍ شعريّ ودعوىً خاليةٍ من البيّنة ، بل مُتّكٍ على حجّة برهانيّة وحقيقة حقّة ثابتة، وهي الّتي تُشير إليه الآية التالية .1
قوله تعالى : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسونَ ورَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَويانِ مثلاً...) إلخ، قال الراغب : الشَّكِس - بالفتح فالكسر - سيّء الخلق ، وقوله : (شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) أي متشاجرون لشكاسة خلقهم ، انتهى . وفسّروا السَّلَم بالخالص الذي لايشترك فيه كثيرون .
مَثَل ضربه اللَّه للمشرك الذي يعبد أرباباً وآلهةً مختلفين ، فيشتركون فيه وهم متنازعون فيأمره هذا بما ينهاه عنه الآخر، وكلّ يريد أن يتفرّد فيه ويخصّه بخدمة نفسه ، وللموحّد الذي هو خالصٌ لمخدومٍ واحدٍ لايشاركه فيه غيره فيخدمه فيما يريد منه من غير تنازعٍ يؤدّي إلى الحَيرة ، فالمشرك هو الرَّجل الذي فيه شركاء متشاكسون ، والموحّد هو الرجل الذي هو سَلَم لرجلٍ . لا يستويان بل الذي هو سلم لرجل أحسن حالاً من صاحبه.
وهذا مَثَل ساذجٌ ممكن الفهم لعامّة النّاس، لكنّه عند المداقة يرجِع إلى قوله تعالى : (لَو كانَ فيهِما آلهَةٌ إلّا اللَّهُ
1.الميزان في تفسير القرآن : ۱۶/۱۳۲ .