الأمثال‏ - الصفحه 28

على‏ رفعها، فهو لا يستطيع أن ينفع غيره كما لاينفع نفسه، فهذا - أعني قوله : (أحَدُهُما أبْكَمُ لايَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ...) إلخ - مَثَل أحد الرجلَين ، ولم يذكر سبحانه مَثَلَ الآخر؛ لحصول العلم به من قوله : (هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ ...)إلخ ، وفيه إيجاز لطيف .
وقوله : (هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ) فيه إشارةٌ إلى‏ وصف الرجل المفروض ، وسؤالٌ عن استوائهما إذا قويس بينهما وعدمه .
أمّا الوصف فقد ذكر له منه آخر ما يمكن أن يتلبّس به غير الأبكم من الخير والكمال الذي يحلّي نفسه ويعدو إلى‏ غيره، وهو العدل الذي هو التزام الحدّ الوسط في الأعمال واجتناب الإفراط والتفريط ؛ فإنّ الأمر بالعدل إذا جرى‏ على‏ حقيقته كان لازمه أن يتمكّن الصلاح من نفس الإنسان ، ثمّ ينبسط على‏ أعماله فيلتزم الاعتدال في الاُمور ، ثمّ يحبّ انبساطه على‏ أعمال غيره من النّاس فيأمرهم بالعدل ، وهو - كما عرفت - مطلق التجنّب عن الإفراط والتفريط، أي العمل الصالح أعمّ من العدل في الرعيّة .
ثمّ وصفه بقوله: (وَهُوَ على‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ)، وهو السبيل الواضح الذي يهدي سالكيه إلى‏ غايتهم من غير عِوَجٍ . والإنسان الذي هو في مسير حياته على‏ صراطٍ مستقيمٍ يجري في أعماله علَى الفطرة الإنسانيّة من غير أن يناقض بعض أعماله بعضاً أو يتخلّف عن شي‏ءٍ ممّا يراه حقّاً . وبالجملة : لاتخلّف ولا اختلاف في أعماله .
وتوصيف هذا الرجل المفروض الذي يأمر بالعدل بكونه على‏ صراطٍ مستقيمٍ يفيد أوّلاً : أنّ أمره بالعدل ليس من أمر النّاس بالبرّ ونسيان نفسه ، بل هو مستقيم في أحواله وأعماله، يأتي بالعدل كما يأمر به . وثانياً : أنّ أمره بالعدل ليس ببدعٍ منه من غير أصلٍ فيه يبتني عليه ، بل هو في نفسه على‏ مستقيم الصراط ، ولازمه أن يحبّ لغيره ذلك فيأمرهم

الصفحه من 44