على رفعها، فهو لا يستطيع أن ينفع غيره كما لاينفع نفسه، فهذا - أعني قوله : (أحَدُهُما أبْكَمُ لايَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ...) إلخ - مَثَل أحد الرجلَين ، ولم يذكر سبحانه مَثَلَ الآخر؛ لحصول العلم به من قوله : (هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ ...)إلخ ، وفيه إيجاز لطيف .
وقوله : (هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ) فيه إشارةٌ إلى وصف الرجل المفروض ، وسؤالٌ عن استوائهما إذا قويس بينهما وعدمه .
أمّا الوصف فقد ذكر له منه آخر ما يمكن أن يتلبّس به غير الأبكم من الخير والكمال الذي يحلّي نفسه ويعدو إلى غيره، وهو العدل الذي هو التزام الحدّ الوسط في الأعمال واجتناب الإفراط والتفريط ؛ فإنّ الأمر بالعدل إذا جرى على حقيقته كان لازمه أن يتمكّن الصلاح من نفس الإنسان ، ثمّ ينبسط على أعماله فيلتزم الاعتدال في الاُمور ، ثمّ يحبّ انبساطه على أعمال غيره من النّاس فيأمرهم بالعدل ، وهو - كما عرفت - مطلق التجنّب عن الإفراط والتفريط، أي العمل الصالح أعمّ من العدل في الرعيّة .
ثمّ وصفه بقوله: (وَهُوَ على صِراطٍ مُسْتَقيمٍ)، وهو السبيل الواضح الذي يهدي سالكيه إلى غايتهم من غير عِوَجٍ . والإنسان الذي هو في مسير حياته على صراطٍ مستقيمٍ يجري في أعماله علَى الفطرة الإنسانيّة من غير أن يناقض بعض أعماله بعضاً أو يتخلّف عن شيءٍ ممّا يراه حقّاً . وبالجملة : لاتخلّف ولا اختلاف في أعماله .
وتوصيف هذا الرجل المفروض الذي يأمر بالعدل بكونه على صراطٍ مستقيمٍ يفيد أوّلاً : أنّ أمره بالعدل ليس من أمر النّاس بالبرّ ونسيان نفسه ، بل هو مستقيم في أحواله وأعماله، يأتي بالعدل كما يأمر به . وثانياً : أنّ أمره بالعدل ليس ببدعٍ منه من غير أصلٍ فيه يبتني عليه ، بل هو في نفسه على مستقيم الصراط ، ولازمه أن يحبّ لغيره ذلك فيأمرهم