التقدير ، والهداية الخاصّة لاتلائم التقدير الذي هو تهيئة الأسباب والعلل لسوق الشيء إلى غاية خلقته ، وإن كانت تلك الهداية أيضاً من جهة النظام العامّ في العالَم داخلةً في حيطةِ التقدير، لكنّ النظر غير النظر ، فافهم ذلك .
وكيف كان، فهذه الهداية العامّة هي هدايته تعالى كلَّ شيءٍ إلى كمال وجوده ، وإيصاله إلى غاية خلقته ، وهي التي بها نزوع كلّ شيءٍ إلى ما يقتضيه قوام ذاته من نشوءٍ واستكمالٍ وأفعالٍ وحركاتٍ وغير ذلك ؛ وللكلام ذيل طويلٌ سنشرحه إن ساعدَنا التوفيق إن شاء اللَّه العزيز .
والغرض أنّ كلامه تعالى يدلّ على أنّ الأشياء إنّما تنساق إلى غاياتها وآجالها بهداية عامّة إلهيّة لا يشذّ عنها شاذّ ، وقد جعلها اللَّه تعالى حقّاً لها على نفسه وهو لايُخلف الميعاد ؛ كما قال تعالى : (إنّ عَلَينا لَلْهُدى * وإنّ لَنا للآخِرَةَ والاُولى)۱ والآية كما ترى تعمّ بإطلاقها الهدايةَ الاجتماعيّة للمجتمعات والهداية الفرديّة مضافةً إلى ما تدلّ عليه الآيتان السابقتان .
فمن حقّ الأشياء علَى اللَّه تعالى هدايتها تكويناً إلى كمالها المقدَّر لها، وهدايتها إلى كمالها المشرَّع لها . وقد عرفت فيما مرّ من مباحث النبوّة أنّ التشريع كيف يدخل في التكوين وكيف يحيط به القضاء والقدر ؛ فإنّ النوع الإنسانيّ له نوع وجودٍ لا يتمّ أمره إلّا بسلسلةٍ من الأفعال الاختياريّة الإراديّة التي لا تقع إلّا عن اعتقادات نظريّة وعمليّة ، فلابدّ أن يعيش تحت قوانين حقّة أو باطلة جيّدة أو رديّة ، فلابدّ لسائق التكوين أن يهيّئ له سلسلة من الأوامر والنواهي (الشريعة) وسلسلةً اُخرى من الحوادث الاجتماعيّة والفرديّة حتّى يخرج بتلاقيه معهما مافي قوّته إلَى الفعل فيسعد أو يشقى ويظهر ما في مكمن وجوده ، وعند ذلك ينطبق على هذه الحوادث وهذا التشريع اسم المحنة والبلاء ونحوهما .