ثمّ أحسّت اجتماعات ببغي ملوكهم وسوء سيرهم ، ولا سبيل إليهم بعد ركوب أريكة الملك وتثبيتهم كون الملك موهبة غير متغيّرة موروثة ، فبدّلوا الملك برئاسة الجمهور ، فانقلب الملك المؤبّد المشروط إلى ملك مؤجّل مشروط ، وربّما وجد في الأقوام والاُمم المختلفة أنواع من الملك دعاهم إلى وضعه الفرار عن المظالم الّتي شاهدوها ممّن بيده زمام أمرهم ، وربّما حدث في مستقبل الأيّام مالم ينتقل أفهامنا إليه إلى هذا الآن.
لكنّ الذي يتحصّل من جميع هذه المساعي الّتي بذلتْها الاجتماعات في سبيل إصلاح هذا الأمر - أعني إلقاء زمام الاُمّة إلى من يدبّر أمرها ، ويجمع شتات إراداتها المتضادّة وقواها المتنافية - أن لا غنى للمجتمع الإنسانيّ عن هذا المقام وهو مقام الملك وإن تغيّرت أسماؤه ، وتبدّلت شرائطه بحسب اختلاف الاُمم ومرور الأيّام ؛ فإنّ طروق الهرج والمرج واختلال أمر الحياة الاجتماعيّة على جميع التقادير من لوازم عدم اجتماع أزمّة الإرادات والمقاصد في إرادة واحدة لإنسان واحد أو مقام واحد .
وهذا هو الذي تقدّم في أوّل الكلام : أنّ الملك منالاعتبارات الضروريّة في الاجتماع الإنسانيّ.
وهو مثل سائر الموضوعات الاعتباريّة الّتي لم يزل الاجتماع بصدد تكميلها وإصلاحها ورفع نواقصها وآثارها المضادّة لسعادة الإنسانيّة .
وللنّبوّة في هذا الإصلاح السّهم الأوفى ؛ فإنّ من المسلّم في علم الاجتماع أنّ انتشار قولٍ ما من الأقوال بين العامّة - وخاصّة إذا كان ممّا يرتبط بالغريزة ، ويستحسنه القريحة ، ويطمئنّ إليه النفوس المتوقّعة - أقوى سبب لتوحيد الميول المتفرّقة وجعل الجماعات المتشتّتة يداً واحداً تقبض وتبسط بإرادة واحدة لا يقوم لها شيء .