ويمحو المأثم والحوب ويُرضي الربّ عن المربوب .
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله أنا ضامن لك يا جارود ! قلت : أعلمُ يا رسول الله أَنك بذلك ضمين قمين . قال : «فَدِنِ الآن بالوحدانية ودَعْ عنك النصرانية» . قلت : أشهد ان لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك عبده ورسوله ، ولقد أسلمتُ على علم بك ونبأ فيك ، علمته من قبل .
فتبسّم صلّى الله عليه و آله كانه علم ما أردته من الأنباء فيه ، فأقبل عليّ وعلى قومي ، فقال : أفيكم مَنْ يعرف قسّ بن ساعدة الأيادي ؟
قلتُ : يا رسول الله كلّنا نعرفه ، غير أني من بينهم عارف بخبره واقف على أثره ، كان قسّ بن ساعدة يا رسول الله سبطاً من أسباط العرب عمّر خمسمائة عام ، تَقَفَّرَ منها في البراري خمسة أعمار ، يضجّ بالتسبيح على منهاج المسيح ، لايقرّه قرار ولا يكنّه جدار ، ولا يستمتع منه جار ، لا يفتر من الرهبانية ويدين الله بالوحدانية يلبس المسوح ويتحسّى في سياحته بيض النعام ويعتبر بالنور والظلام ، يبصر ويتفكر فيختبر ، تضرب بحكمته الأمثال ، أدرك رأس الحواريين شمعون وأدرك لوقا ويوحنا وأمثالهم ففقه كلامهم ونقل منهم ، ويحوّب الدهر ، وجانب الكفر ، وهو القائل بسوق عكاظ وذي المجاز : شَرْقٌ وغَرْبٌ ، ويابس ورطبٌ ، وأجاج وعذبٌ ، وحبٌّ ونباتٌ ، وجمع وأشتاتٌ ، وذهابٌ ومماتٌ ، وآباء وأمّهاتٌ ، وسرور مولودٌ ، ورزء مفقودٌ ، نبأٌ لأرباب الغفلة ، ليصلحنّ العامل عمله ، قبل أن يفقد أجله ؛ كلا بل هو الله الواحد ، ليس بمولود ولا والد ، أمات وأحيى ، وخلق الذكر والأنثى ، وهو ربّ الآخرة والأولى ، ثمّ أنشد كلمة له شعراً :
ذكر القلب من جواه إدّكار-وليال خلا لهن نهارُ
وشموس من تحتها قمر الليـ-ـل وكلّ متابع موّارُ
وجبال شوامخ راسيات-وبحار مياههن غزارُ
وصغير وأشمط ورضيع-كلّهم في الصعيد يوماً بوارُ
كلّ هذا هو الدليل على الله-ففيه لنا هدىً واعتبارُ
ثمّ صاح : يا معاشر أياد ، أين ثمود ؟ وأين عاد ؟ وأين الآباء والأجداد ؟ وأين العليل والعوّاد ؟ وأين الطالبون والروّاد ؟ وكلٌّ له معاد ، أقسم قسّ بربّ العباد ؛ وساطح المهاد ، وخالق السبع الشداد ، سماوات بلا عماد ، ليحشرنّ على الانفراد ، وعلى قرب وبعاد ، إذا نفخ في الصور ونقر في الناقور ، وأشرقت الأرض بالنور ، فقد وعظ الواعظ ، وانتبه القائظ ، وأبصر اللاحظ ، ولفظ اللافظ ، فويلٌ لمن صدف عن الحقّ الأشهر ، وكذب بيوم المحشر ، والسراج الأزهر ، في يوم الفصل ، وميزان العدل ، ثمّ أنشأ يقول :
ياناعي الموت والأموات في جَدَثٍ-عليهم من بقايا بزّهم خرقُ
منهم عراة وموتى في ثيابهم-منها الجديد ومنها الأورق الخلقُ
دعهم فإنّ لهم يوماً يصاحُ بهم-كما ينبّه من رقداته الصعقُ
حتّى يجيئوا بحال غير حالهم-خلقٌ مضوا ثم ماذا بعد ذاك لقوا
ثمّ أقبلت على أصحابه صلّى الله عليه و آله فقلت : على علمٍ به آمنتم به قبل مبعثه ، كما آمنت به أنا ، (فنصّت إلى رجل منهم وأشارت إليه وقالوا) ۱ : هذا صاحبه وطالبه على وجه الدهر وسالف العصر ، وليس فينا خير منه ولا أفضل ، فبصرت به أغرّ أبلج
1.كذا في المطبوعة ، وفي (ط) والمخطوطة : «فضت إلى رجلٍ منهم وأشرت إليه وقلت» .