الجميع بالجندل وهم نيام فعلوا، وإن أمكن ذلك في طرفة عين لم يؤخروه إلى ساعة، وإن كان الحرق أعجل من الغرق لم يقتصروا على الغرق، ولم يؤخروا الحرق إلى وقت الغرق، وإن أمكن الهدم لم يتكلفوا الحصار، ولم يدعوا أن نصبوا المجانيق والعرادات والنقب والتسريب والدبابات والكمين، ولم يدعوا دسّ السموم، ولا التضريب بين الناس بالكذب، وطرح الكتب في عساكرهم بالسعايات، وتوهيم الأمور، وإيجاش بعض من بعض، وقتلهم بكلّ آله وحيلة، كيف وقع القتل، وكيف دارت بهم الحال !
فمن اقتصر - حفظك اللَّه - من التدبير على ما في الكتاب والسنة، كان قد منع نفسه الطويل العريض من التدبير، وما لا يتناهى من المكايد والكذب-حفظك اللَّه - أكثر من الصدق، والحرام أكثر عدداً من الحلال، ولو سمى إنسان إنساناً باسمه لكان قد صدق، وليس له اسم غيره، ولو قال: هو شيطان أو كلب أو حمار أو شاة أو بعير، أو كل ما خطر على البال، لكان كاذباً في ذلك، وكذلك الايمان والكفر، وكذلك الطاعة والمعصية، وكذلك الحق والباطل، وكذلك السقم والصحة، وكذلك الخطأ والصواب.
فعلي عليه السلام كان ملجماً بالورع عن جميع القول إلا ما هو للَّه عزوجل رضا، وممنوع اليدين من من كل بطش إلا ما هو للَّه رضا، ولا يرى الرضا إلا فيما يرضاه اللَّه ويحبّه، ولا يرى الرضا إلا فيما دلّ عليه الكتاب والسنة، دون ما يعول عليه أصحاب الدهاء والنكراء والمكايد والآراء.
فلمّا أبصرت العوام كثرة نوادر معاوية في المكايد، وكثرة غرائبه في الخداع، وما اتفق له وتهيأ على يده، ولم يرو ذلك من علي عليه السلام، ظنّوا بقصر عقولهم، وقلّة علومهم، أن ذلك من رجحان عند معاوية، ونقصان عند علي عليه السلام ۱ .
1.شرح نهج البلاغة - ابن أبى الحديد ج ۱۰ص: ۲۲۸