ووجهٌ آخرُ: أَنّ قولَه: «أَحقّ» إنَّ المدلولَ عليه لا يَدخُلُه الاحتمالُ ؛ لأَنّ الدِّلالةَ لا تُخطِئ ، بل هي كاشفةٌ عن حقيقةِ المعلومِ قَطعاً ويقيناً ، وليس كذلك المشاهدة ؛ فإنّه قد يَدخُلُها اللّبسُ. أَلا ترى أَنّ الناظرَ يرى من نزولِ المطرِ خَطّاً مستقيماً ، ويرى النقطَة الجَوّالةَ دائرةً ، ويرى راكبُ السّفينةِ ساحلَ البحرِ مُتَحَرِّكاً والسّفينةَ ساكنةً. فلا تكشِف ۱ المشاهدةُ عن حقيقةِ المدرَكِ ، كما ذكرناه. فلما دلّت الأَدِلّةُ على اللّهِ تعالى لم يَجُز أَن يكونَ بخلافِ ما دلَّت عليه قطعاً ويقيناً ، فكان لذلك أَحقَّ من المُشاهدةِ. وكذلك كلُّ معلومٍ بالدليلِ فهذا سبيلُه. وكذلك قال في بعض كلامِه: قد تكذب العيونُ أهلَها ، ولا يَغشُّ العقلُ من اسْتَنْصَحَه.۲ وهذا بعينِه هو الذي ذكرناه. ۳
قوله: لم تَبلُغْه العُقولُ بتحديدٍ فيكونَ مُشَبَّهاً.
قال الإمام الوبريّ: لأَنّه تعالى إِنّما عُلِم قادِراً عالِماً حَيّاً سمِيعاً بصيراً قَديماً ، وهذه الصّفاتُ لا تُوجِب التّحديدَ ، وإِذا لم يكن محدوداً لم يُشبِه شيئاً ؛ لأَنّ التّحديدَ هو الذي يقتضي التّشبيهَ ، وأَنَّ المحدودَ لا يكون إِلاّ جِسما ، والأَجسام ۴
مُتَماثِلَةٌ في الجنسِ ، فإذا لم تَجُز عليه الحدودُ لم يَجُز عليه حُكمُها وهو التَّحَيُّزُ ، وإذا لم يَجُز عليه التَّحَيُّزُ لم يَجُز أَن يكون مُماثِلاً للمُتَحَيِّز. ۵
قوله: ولم تَقع عليه الأَوهامُ بتقديرٍ فيكونَ مُمَثَّلاً.
وقال الإِمام الوبريُّ: لأَنّ الوهمَ والتقديرَ إِنّما يتعلّقانِ بما له هيئةٌ وشكلٌ ، والهيئةُ مقصورةٌ على الجسمِ ؛ فإِذا لم يصِحَّ كونُه جِسماً ، لم تَصِحَّ عليه الهيئةُ ، ولم يَجُز أَن يكون مُمَثَّلاً. ۶
1.في «د» : يَكْتَشِف.
2.القول ۲۸۱ في الباب الثالث من نهج البلاغة «باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام ».
3.معارج ، ص ۵۴۸.
4.«د» : ـ «والأجسام» .