عیسی - الصفحه 9

وإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فإنّكَ أنْتَ العَزيزُ الحَكيمُ * قالَ اللَّهُ هذا يَومُ يَنْفَعُ الصّادِقينَ صِدْقُهُم) .1
وهذا الكلام العجيب الذي يشتمل من العبوديّة على‏ عصارتها ، ويتضمّن من بارع الأدب على‏ مجامعه ، يُفصح عمّا كان يراه عيسَى المسيح عليه السلام من موقفه نفسه تلقاء ربوبيّة ربّه ، وتجاه الناس وأعمالهم ؛ فذكر أنّه كان يرى‏ نفسه بالنسبة إلى‏ ربّه عبداً لا شأن له إلّا الامتثال ، لا يرد إلّا عن أمر ، ولا يصدر إلّا عن أمر ، ولم يؤمر إلّا بالدعوة إلى‏ عبادة اللَّه وحده ، ولم يقل لهم إلّا ما اُمر به : أنِ اعبدوا اللَّه ربّي وربّكم .
ولم يكن له من الناس إلّا تحمّل الشهادة على‏ أعمالهم فحسب ، وأمّا ما يفعله اللَّه فيهم وبهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك ؛ غفر أو عذّب .
فإن قلت : فما معنى ما تقدّم في الكلام علَى الشفاعة : أنّ عيسى‏ عليه السلام من الشفعاء يوم القيامة يشفع فيشفّع ؟
قلت : القرآن صريح أو كالصريح في ذلك ، قال تعالى‏ : (ولا يَمْلِكُ الّذينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفاعَةَ إلّا مَنْ شَهِدَ بالحَقِّ وهُمْ يَعْلَمونَ)2 ، وقد قال تعالى‏ فيه : (ويَوْمَ القِيامَةِ يَكونُ علَيْهِم شَهيداً)3 ، وقال تعالى‏ : (وإذْ عَلَّمْتُكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَّوراةَ والإنْجيلَ) .4 وقد تقدّم إشباع الكلام في معنَى الشفاعة ، وهذا غير التّفدية التي يقول بها النّصارى‏ ، وهي إبطال الجزاء بالفدية والعوض ؛ فإنّها تبطل السلطنة المطلقة الإلهيّة على‏ ماسيجي‏ء من بيانه ، والآية إنّما تنفي ذلك . وأمّا الشفاعة فالآية غير متعرّضة لأمرها لا إثباتاً ولا نفياً ؛ فإنّها لو كانت بصدد إثباتها - على‏ منافاته للمقام‏5 - لكان حقّ الكلام أن يقال : وإن تغفر لهم فإنّك أنت الغفور الرحيم ، ولو كانت بصدد نفيها لم يكن لذكر الشهادة علَى الناس وجه ، وهذا

1.المائدة : ۱۱۶ - ۱۱۹ .

2.الزخرف : ۸۶ .

3.النساء : ۱۵۹ .

4.المائدة : ۱۱۰ .

5.فإنّ المقام مقام التذلّل دون الاسترسال. (كما في هامش المصدر).

الصفحه من 14