121
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

والذي أوردناه في هذا الفصل إشارة إجماليّة إلى‏ سبيل البحث» .۱
و قال قدّس سرّه في تفسير قوله تعالى‏ : (ولِيَقُولَ الّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ)۲ :

ذنابة لما تقدّم من الكلام في النفاق :

ذكر بعضهم أنّ قوله تعالى‏ : (ولِيَقُولَ الّذِين في قُلُوبِهِم مَرَضٌ...) الآية - بناءً على‏ أنّ السورة بتمامها مكّيّة ، وأنّ النفاق إنّما حدث بالمدينة - إخبار عمّا سيحدث من المغيّبات بعد الهجرة . انتهى‏ .
أمّا كون السورة بتمامها مكّيّة فهو المتعيّن من طريق النقل ، وقد ادّعي عليه إجماع المفسّرين ، وما نقل عن مقاتل أنّ قوله : (وما جَعَلْنا أصْحابَ النَّارِ إلّا مَلائكةً...)۳ الآية مَدَنِيَّةٌ ، لم يثبت من طريق النقل . وعلى‏ فرض الثبوت هو قول نظريّ مبنيّ على‏ حدوث النفاق بالمدينة والآية تخبر عنه .
وأمّا حديث حدوث النفاق بالمدينة فقد أصرّ عليه بعضهم محتجّاً عليه بأنّ النبيّ صلى اللَّه عليه وآله والمسلمين لم يكونوا قبل الهجرة من القوّة ونفوذ الأمر وسعة الطَّول بحيث يهابهم الناس أو يرجى‏ منهم خير حتّى‏ يتّقوهم ويظهروا لهم الإيمان ويلحقوا بجمعهم مع إبطان الكفر، وهذا بخلاف حالهم بالمدينة بعد الهجرة .
والحجّة غير تامّة كما أشرنا إليه في تفسير سورة المنافقون في كلام حول النفاق ؛ فإنّ علل النفاق ليست تنحصر في المخافة والاتّقاء أو الاستدرار من خير معجّل ، فمن علله الطمع ولو في نفع مؤجّل ، ومنها العصبيّة والحميّة ، ومنها استقرار العادة ، ومنها غير ذلك .
ولا دليل علَى انتفاء جميع هذه العلل عن جميع من آمن بالنبيّ صلى اللَّه عليه وآله بمكّة قبل الهجرة ، وقد نقل عن بعضهم أنّه آمن ثمّ رجع أو آمن عن ريب ثمّ صلح .

1.الميزان في تفسير القرآن : ۱۹ / ۲۸۷ .

2.المدّثّر : ۳۱ .

3.المدّثّر : ۳۱ .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
120

ويكتم ارتداده ، كما مرّت الإشارة إليه في قوله تعالى‏ : (ذلكَ بأنَّهُم آمَنوا ثُمَّ كَفَروا ...)۱ الآية ، وكما يظهر من لحن مثل قوله تعالى‏ : (يا أيُّها الّذِينَ آمَنوا مَن يَرْتَدَّ مِنْكُم عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ)۲ .
وأيضاً الذين آمنوا من مشركي مكّة يوم الفتح لا يؤمن أكثرهم أن لا يؤمنوا إيمان صدق وإخلاص، ومن البديهيّ عند من تدبّر في حوادث سني الدعوة أنّ كفّار مكّة وما والاها - وخاصّة صناديد قريش - ما كانوا ليؤمنوا بالنبيّ صلى اللَّه عليه وآله لولا سواد جنود غشيتهم وبريق سيوف مسلّطة فوق رؤوسهم يوم الفتح ، وكيف يمكن مع ذلك القضاء بأنّه حدث في قلوبهم - والظرف هذا الظرف - نور الإيمان وفي نفوسهم الإخلاص واليقين فآمنوا باللَّه طوعاً عن آخرهم ولم يدبّ فيهم دبيب النفاق أصلاً ؟!
وأمّا ثانياً : فلأنّ استمرار النفاق إلى‏ قرب رحلة النبيّ صلى اللَّه عليه وآله وانقطاعه عند ذلك ممنوع . نعم ، انقطع الخبر عن المنافقين بالرحلة وانعقاد الخلافة وانمحى‏ أثرهم ، فلم يظهر منهم ما كان يظهر من الآثار المضادّة والمكائد والدسائس المشؤومة .
فهل كان ذلك لأنّ المنافقين وفّقوا للإسلام وأخلصوا الإيمان عن آخرهم برحلة النبيّ صلى اللَّه عليه وآله وتأثّرت قلوبهم من موته ما لم يتأثّر بحياته ؟ أو أنّهم صالحوا أولياء الحكومة الإسلاميّة على‏ ترك المزاحمة بأن يسمح لهم ما فيه اُمنيّتهم مصالحة سرّيّة بعد الرحلة أو قبلها ؟ أو أنّه وقع هناك تصالح اتّفاقيّ بينهم وبين المسلمين فوردوا جميعاً في مشرعة سواء فارتفع التصاكّ والتصادم ؟
ولعل التدبّر الكافي في حوادث آخر عهد النبيّ صلى اللَّه عليه وآله والفتن الواقعة بعد رحلته يهدي إلَى الحصول على‏ جواب شافٍ لهذه الأسئلة .

1.المنافقون : ۳ .

2.المائدة : ۵۴ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 226498
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي