127
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

بالحاجة الماليّة في سبيل قيامه ورشده .
غير أنّ الشريعة الإسلاميّة تمتاز في ذلك من سائر السنن والشرائع باُمور يجب إمعان النظر فيها للحصول على‏ غرضها الحقيقيّ ونظرها المصيب في تشريعها ، وهي :
أوّلاً : أنّها اقتصرت في وضع هذا النوع من الجهات الماليّة على‏ كينونة الملك وحدوثه موجوداً ولم يتعدّ ذلك . وبعبارة اُخرى‏ : إذا حدثت ماليّة في ظرف من الظروف كغلّة حاصلة عن زراعة أو ربح عائد من تجارة أونحو ذلك بادرت فوضعت سهماً منها ملكاً للمجتمع وبقيّة السهام ملكاً لمن له رأس المال أو العمل مثلاً ، وليس عليه إلّا أن يردّ مال المجتمع وهو السهم إليه .
بل ربّما كان المستفاد من أمثال قوله تعالى‏ : (خَلَقَ لَكُم ما في الأرضِ جَميعاً)۱ وقوله : (ولا تُؤْتوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ الّتي جَعَلَ اللَّهُ لَكُم قِياماً)۲، أنّ‏الثروة الحادثة عند حدوثها للمجتمع بأجمعها، ثمّ اختصّ سهم منها للفرد الذي نسمّيه المالك أو العامل ، وبقي سهم - أعني سهم الزكاة أو سهم الخمس - في ملك المجتمع كما كان ، فالمالك الفرد مالك في طول مالك وهو المجتمع ، وقد تقدّم بعض البحث عن ذلك في تفسير الآيتين .
وبالجملة : فالذي وضعته الشريعة من الحقوق الماليّة كالزكاة والخمس مثلاً إنّما وضعته في الثروة الحادثة عند حدوثها ، فشرّكت المجتمع مع الفرد من رأس ، ثمّ الفرد في حرّيّة من ماله المختصّ به يضعه حيث يشاء من أغراضه المشروعة من غير أن يعترضه في ذلك معترض ، إلّا أن يدهم المجتمع من المخاطر العامّة ما يجب معه صرف شي‏ء من رؤوس الأموال في سبيل حفظ حياته ، كعدوّ هاجم يريد أن يُهلك الحرث والنسل ،

1.البقرة : ۲۹ .

2.النساء : ۵ .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
126

كلام في الزكاة وسائر الصَّدقة :

قال العلّامة الطباطبائي : «الأبحاث الاجتماعيّة والاقتصاديّة وسائر الأبحاث المرتبطة بها جعلت اليوم حاجة المجتمع - من حيث إنّه مجتمع - إلى‏ مال يختصّ به ويُصرف لرفع حوائجه العامّة، في صفّ البديهيّات التي لا يشكّ فيها شاكّ ولا يداخلها ريب، فكثير من المسائل الاجتماعيّة والاقتصاديّة - ومنها هذه المسألة - كانت في الأعصار السالفة ممّا يغفل عنها عامّة الناس ولا يشعرون بها إلّا شعوراً فطريّاً إجماليّاً، وهي اليوم من الأبجديّات التي يعرفها العامّة والخاصّة .
غير أنّ الإسلام - بحسب ما بيّن من نفسيّة الاجتماع وهويّته ، وشرّع من الأحكام الماليّة الراجعة إليها ، والأنظمة والقوانين التي رتّبها في أطرافها ومتونها - له اليد العليا في ذلك .
فقد بيّن القرآن الكريم أنّ الاجتماع يصيغ من عناصر الأفراد المجتمعين صيغة جديدة ، فيكوِّن منهم هويّة جديدة حيّة هي المجتمع، وله من الوجود والعمر والحياة والموت والشعور والإرادة والضعف والقوّة والتكليف والإحسان والإساءة والسعادة والشقاوة أمثال أو نظائر ما للإنسان الفرد ، وقد نزلت في بيان ذلك كلّه آيات كثيرة قرآنيّة كرّرنا الإشارة إليها في خلال الأبحاث السابقة .
وقد عزلت الشريعة الإسلاميّة سهماً من منافع الأموال وفوائدها للمجتمع كالصدقة الواجبة التي هي الزكاة وكالخمس من الغنيمة ونحوها ، ولم يأت في ذلك ببدع ؛ فإنّ القوانين والشرائع السابقة عليها كشريعة حمورابي وقوانين الروم القديم يوجد فيها أشياء من ذلك ، بل سائر السنن القوميّة في أيّ عصر وبين أيّة طائفة دارت لا يخلو عن اعتبار جهة ماليّة لمجتمعها ، فالمجتمع كيفما كان يحسّ

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 226494
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي