143
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

أنّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَي‏ءٍ فانّ للَّهِ‏ِ خُمُسَهُ...) الآية بعد حين ، فأخرج النبيّ صلى اللَّه عليه وآله ممّا ردّ إليهم من السهام الخمس وبقي لهم الباقي . هذا ما يتحصّل من انضمام الآيات المربوطة بالأنفال بعضها ببعض .
فقوله تعالى‏ : (يَسْألونَكَ عَنِ الأنْفالِ) يفيد - بما ينضمّ إليه من قرائن السياق - أنّهم سألوا النبيّ صلى اللَّه عليه وآله عن حكم غنائم الحرب بعد ما زعموا أنّهم يملكون الغنيمة ، واختلفوا فيمن يملكها ، أو في كيفيّة ملكها وانقسامها بينهم ، أوفيهما معاً ، وتخاصموا في ذلك .
وقوله : (قُلِ الأنْفالُ للَّهِ‏ِ والرَّسُولِ) جواب عن مسألتهم ، وفيه بيان أنّهم لا يملكونها وإنّما هي أنفال يملكها اللَّه ورسوله ، فيوضع حيثما أراد اللَّه ورسوله ، وقد قطع ذلك أصل ما نشب بينهم من الاختلاف والتخاصم .
ويظهر من هذا البيان أنّ الآية غير ناسخة لقوله تعالى‏: (فَكُلوا مِمّا غَنِمْتُمْ...) إلى‏ آخر الآية، وإنّما تبيّن معناها بالتفسير ، وأنّ قوله : (كُلوا) ليس بكناية عن ملكهم للغنيمة بحسب الأصل ، وإنّما المراد هو التصرّف فيها والتمتّع منها إلّا أن يمتلكوا بقسمة النبيّ صلى اللَّه عليه وآله إيّاها بينهم .
ويظهر أيضاً أنّ قوله تعالى‏ : (واعْلَموا أنّ ما غَنِمْتُمْ مِنْ شَي‏ءٍ فأنّ للَّهِ‏ِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ ولِذي القُرْبى‏...) الآية ليس بناسخ لقوله : (قُلِ الأنْفالُ للَّهِ‏ِ والرَّسُولِ ...) الآية ؛ فإنّ قوله : (واعْلَموا أنّ ما غَنِمْتُمْ ...) الآية إنّما يؤثّر بالنسبة إلَى المجاهدين منعهم عن أكل تمام الغنيمة والتصرّف فيه ؛ إذ لم يكن لهم بعد نزول قوله : (الأنْفالُ للَّهِ‏ِ والرَّسُولِ) إلّا ذلك . وأمّا قوله : (الأنْفالُ للَّهِ‏ِ والرَّسُولِ) فلا يفيد إلّا كون أصل ملكها للَّه والرسول من دون أن يتعرّض لكيفيّة التصرّف وجواز الأكل والتمتّع ، فلا يناقضه في ذلك قوله : (واعْلَموا أنّ ما غَنِمْتُمْ...) الآية ، حتّى‏ يكون بالنسبة إليه ناسخاً ، فيتحصّل من مجموع الآيات الثلاث : أنّ أصل الملك في


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
142

وَما أنْزَلْنا على‏ عَبدِنا يَومَ الفُرْقانِ يَومَ التَقَى الجَمْعانِ واللَّهُ على‏ كُلِّ شَي‏ءٍ قَديرٌ)1 ، وقوله تعالى‏ : (ما كانَ لِنَبيٍّ أنْ يَكونَ لَهُ أسْرَى‏ حَتّى‏ يُثْخِنَ في الأرضِ تُريدونَ عَرَضَ الدُّنيا واللَّهُ يُريدُ الآخِرَةَ واللَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌ * لَولا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فيما أخَذْتُمْ عَذابٌ عَظيمٌ * فَكُلوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً واتَّقوا اللَّهَ إنّ اللَّهَ غفورٌ رَحيمٌ)2 .
وسياق الآية الثانية يفيد أنّها نزلت بعد الآية الاُولى‏ والآيات الأخيرة جميعاً ؛ لمكان قوله فيها : (إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ باللَّهِ وما أنْزَلْنا على‏ عَبْدِنا يَومَ الفُرْقانِ يَومَ التَقَى الجَمْعانِ) فهي نازلة بعد الوقعة بزمان .
ثمّ الآيات الأخيرة تدلّ على‏ أنّهم كلّموا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله في أمر الأسرى‏ وسألوه أن لا يقتلهم ويأخذ الفدية ، وفيها عتابهم على‏ ذلك ، ثمّ تجويز أن يأكلوا ممّا غنموا ، وكأنّهم فهموا من ذلك أنّهم يملكون الغنائم والأنفال على‏ إبهام في أمره : هل يملكه جميع من حضر الوقعة أو بعضهم كالمقاتلين دون القاعدين مثلاً ؟ وهل يملكون ذلك بالسويّة فيقسّم بينهم كذلك ، أو يختلفون فيه بالزيادة والنقيصة كأن يكون سهم الفرسان منها أزيد من المشاة ؟ أو نحو ذلك .
وكان ذلك سبب التخاصم بينهم ، فتشاجروا في الأمر ورفعوا ذلك إلى‏ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله ، فنزلت الآية الاُولى‏ : (قُلِ الأنْفالُ للَّهِ‏ِ والرَّسُولِ فاتَّقوا اللَّهَ وأصْلِحوا ذاتَ بَينِكُم ...) الآية ، فخطّأتهم الآية فيما زعموا أنّهم مالكو الأنفال بما استفادوا من قوله : (فَكُلوا مِمّا غَنِمْتُمْ...) الآية ، وأقرّت ملك الأنفال للَّه والرسول ونهتهم عن التخاصم والتشاجر ، فلمّا انقطع بذلك تخاصمهم أرجعها النبيّ صلى اللَّه عليه وآله إليهم ، وقسّمها بينهم بالسويّة ، وعزل السهم لعدّة من أصحابه لم يحضروا الوقعة ، ولم يقدّم مقاتلاً على‏ قاعد ، ولا فارساً على‏ ماشٍ ، ثمّ نزلت الآية الثانية : (واعْلَموا

1.الأنفال : ۴۱ .

2.الأنفال : ۶۷ - ۶۹ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 226874
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي