217
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

سَعَى‏ * وأنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏ * ثُمَّ يُجْزاهُ الجَزاءَ الأوْفى‏)1 .
فهذا نوع من الارتباط مستقرّ بين الأعمال والملَكات وبين الذوات . وهناك نوع آخر من الارتباط مستقرّ بين الأعمال والملكات وبين الأوضاع والأحوال والعوامل الخارجة عن الذات الإنسانيّة المستقرّة في ظرف الحياة وجوّ العيش ، كالآداب والسُّنن والرّسوم والعادات التقليديّة ؛ فإنّها تدعو الإنسان إلى‏ ما يوافقها وتزجره عن مخالفتها ، ولا تلبث دون أن تصوّره صورة جديدة ثانية تنطبق أعماله علَى الأوضاع والأحوال المحيطة به المجتمعة المؤتلفة في ظرف حياته .
وهذه الرابطة على‏ نحو الاقتضاء غالباً ، غير أ نّها ربّما يستقر استقراراً لا مطمع في زوالها من جهة رسوخ الملَكات الرذيلة أو الفاضلة في نفس الإنسان ، وفي كلامه تعالى‏ ما يشير إلى‏ ذلك كقوله : (إنّ الّذِينَ كَفَروا سَواءٌ عَلَيهِمْ أأنْذَرْتَهُم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤمِنونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلى‏ قُلوبِهِمْ وَعَلى‏ سَمْعِهِم وعَلى‏ أبْصارِهِم غِشاوَةٌ)2 إلى‏ غير ذلك .
ولا يضرّ ذلك صحّة إقامة الحجّة عليهم بالدعوة والإنذار والتبشير ، لأنّ امتناع تأثير الدعوة فيهم مستند إلى‏ سوء اختيارهم ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار .
فقد تبيّن بما قدّمناه - على‏ طوله - أنّ للإنسان شاكلة بعد شاكلة ؛ فشاكلة يهيّؤها نوع خلقته وخصوصيّة تركيب بنيته ، وهي شخصيّة خلقيّة متحصّلة من تفاعل جهازاته البدنيّة بعضها مع بعض كالمزاج الّذي هو كيفيّة متوسّطة حاصلة من تفاعل الكيفيّات المتضادّة بعضها في بعض ، وشاكلة اُخرى‏ ثانية وهي شخصيّة خلقيّة متحصّلة من وجوه تأثير العوامل الخارجيّة في النفس الإنسانيّة على‏ ما فيها من الشاكلة الاُولى‏ إن كانت .

1.النجم : ۳۹ - ۴۱ .

2.البقرة : ۶ و ۷ .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
216

تغيير ، قال : (فأقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الّتي فَطَرَ النَّاسَ علَيها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ)1 ، وقال : (ثُمَّ السَّبيلَ يَسَّرَهُ)2 ولا تجامع دعوة الفطرة إلَى الدّين الحقّ والسّنّة المعتدلة دعوة الخلقة إلَى الشّرّ والفساد والانحراف عن الاعتدال بنحو العِلّية التامّة .
وقول القائل : إنّ السعادة والشقاوة ذاتيّتان لا تتخلّفان عن ملزومهما كزوجيّة الأربعة وفرديّة الثّلاثة أو مقضيّتان بقضاء أزليّ لازم ، وأنّ الدّعوة لإتمام الحجّة لا لإمكان التّغيير ورجاء التحوّل من حال إلى‏ حال ، فالأمر مفروغ عنه ، قال تعالى‏ : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويَحْيى مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)3 .
مدفوع : بأنّ صحّة إقامة الحجّة بعينها حجّة على‏ عدم كون سعادة السعيد وشقاوة الشقيّ لازمة ضروريّة؛ فإنّ السعادة والشقاوة لو كانتا من لوازم الذوات لم تحتاجا في لحوقهما إلى‏ حجّة ، إذ لا حجّة في الذاتيّات فتلغو الحجّة ، وكذا لو كانتا لازمتَين للذوات بقضاء لازم أزليّ لا لاقتضاء ذاتيّ من الذّوات كانت الحجّة للنّاس علَى اللَّه سبحانه ، فتلغو الحجّة منه تعالى‏ ، فصحّة إقامة الحجّة من قبله سبحانه تكشف عن عدم ضروريّة شي‏ء من السعادة والشقاوة بالنظر إلى‏ ذات الإنسان ، مع قطع النظر عن أعماله الحسنة والسيّئة واعتقاداته الحقّة والباطلة .
على‏ أنّ توسّل الإنسان بالفطرة إلى‏ مقاصد الحياة - بمثل التعليم والتربية والإنذار والتبشير والوعد والوعيد والأمر والنهي وغير ذلك - أوضح دليل على‏ أنّ الإنسان في نفسه على‏ ملتقى‏ خطَّين ومنشعب طريقَين : السعادة والشقاوة ، وفي إمكانه أن يختار أيّاً منهما شاء وأن يسلك أيّاً منهما أراد ، ولكلّ سعي جزاء يناسبه ، قال تعالى‏ : (وأنْ لَيْسَ للإنْسانِ إلّا ما

1.الروم : ۳۰ .

2.عبس : ۲۰ .

3.الأنفال : ۴۲ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 226754
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي