235
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

أنزل اللَّه على‏ نبيّك شيئاً ؟ قال : نعم ، فقرأ عليه سورة مريم ، فلمّا بلغ إلى‏ قوله : (وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلي واشْرَبي وقَرِّي عَيْناً)۱، فلمّا سمع النجاشيّ بهذا بكى‏ بكاءً شديداً ، وقال : هذا واللَّه هو الحقّ . فقال عمرو بن العاص : أيّها الملك ، إنّ هذا مخالفنا فردّه إلينا ، فرفع النجاشيّ يده فضرب بها وجه عمرو ، ثمّ قال : اسكت ، واللَّه يا هذا لئن ذكرته بسوء لأفقدنّك نفسك . فقام عمرو بن العاص من عنده والدّماء تسيل على وجهه وهو يقول : إن كان هذا كما تقول أيّها الملك فإنّا لا نتعرّض له !
وكانت على‏ رأس النجاشيّ وصيفة له تذبّ عنه ، فنظرت الى‏ عمارة بن الوليد وكان فتىً جميلاً فأحبّته ، فلمّا رجع عمرو بن العاص إلى‏ منزله قال لعمارة : لو راسلت جارية الملك ! فراسلها فأجابته ، فقال عمرو : قل لها تبعث إليك من طِيب الملك شيئاً ، فقال لها فبعثت إليه ، فأخذ عمرو من ذلك الطِّيب ، وكان الذي فعل به عمارة في قلبه حين ألقاه في البحر ، فأدخل الطيب علَى النجاشيّ فقال : أيّها الملك ، إنّ حرمة الملك عندنا وطاعته علينا وما يكرمنا إذا دخلنا بلاده ونأمن فيه أن لا نغشّه ولا نريبه ، وإنّ صاحبي هذا الّذي معي قد أرسل إلى‏ حرمتك وخدعها وبعثت إليه من طيبك . ثمّ وضع الطيب بين يديه ، فغضب النجاشيّ وهمّ بقتل عمارة ، ثمّ قال : لا يجوز قتله ؛ فإنّهم دخلوا بلادي فأمان لهم . فدعا النجاشي السحرة ، فقال لهم : اعملوا به شيئاً أشدّ عليه من القتل ، فأخذوه ونفخوا في إحليله الزئبق فصار مع الوحش يغدو ويروح ، وكان لا يأنس بالناس . فبعثت قريش بعد ذلك فكمنوا له في موضع حتّى‏ ورد الماء مع الوحش ، فأخذوه فما زال يضطرب في أيديهم ويصيح حتّى‏ مات .

1.مريم : ۲۵ و ۲۶ .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
234

ليردّوهم إليهم ، وكان عمرو وعمارة متعاديَين ، فقالت قريش : كيف نبعث رجلَين متعاديَين ؟! فبرئت بنو مخزوم من جناية عمارة وبرئت بنو سهم من جناية عمرو بن العاص ، فخرج عمارة وكان حسن الوجه شابّاً مترفاً فأخرج عمرو بن العاص أهله معه ، فلمّا ركبوا السفينة شربوا الخمر ، فقال عمارة لعمرو بن العاص ، قل لأهلك تقبّلني ، فقال عمرو : أيجوز هذا؟! سبحان اللَّه ! فسكت عمارة ، فلمّا انتشى‏۱ عمرو وكان على‏ صدر السفينة ، دفعه عمارة وألقاه في البحر فتشبّث عمرو بصدر السفينة وأدركوه فأخرجوه ، فوردوا علَى النجاشيّ وقد كانوا حملوا إليه هدايا فقبلها منهم ، فقال عمرو بن العاص أيّها الملك ، إنّ قوماً منّا خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا وصاروا إليك فردّهم الينا . فبعث النجاشيّ إلى‏ جعفر فجاؤوا به ، فقال : يا جعفر ، ما يقول هؤلاء ؟ فقال جعفر : أيّها الملك ، وما يقولون ؟ قال : يسألون أن أردّكم اليهم . قال : أيّها الملك ، سلهم : أعبيد نحن لهم ؟ فقال عمرو ، لا بل أحرار كرام . قال : فسلهم ألَهُم علينا ديون يطالبوننا بها ؟ قال : لا ، ما لنا عليكم ديون . قال : فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها ؟ قال عمرو : لا ، قال : فما تريدون منّا ؟ آذيتمونا فخرجنا من بلادكم . فقال عمرو بن العاص : أيّها الملك ، خالَفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا وأفسدوا شبابنا وفرّقوا جماعتنا ، فرُدّهم إلينا لتجمع أمرنا ، فقال جعفر : نعم أيّها الملك، خالفناهم بأنّه بعث اللَّه فينا نبيّاً أمر بخلع الأنداد ، وترك الاستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصلاة والزكاة ، وحرّم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حقّها والزناء والربا والميتة والدم ، وأمرنا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى‏ ، وينهى‏ عن الفحشاء والمنكر والبغي. فقال النجاشيّ: بهذا بعث اللَّه عيسَى بن مريم عليه السلام، ثم قال النجاشيّ: يا جعفر ، هل تحفظ ممّا

1.أي سَكِر (كما في هامش المصدر).

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 226859
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي