479
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

وخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ واقْعُدوا لَهُم كُلَّ مَرْصَدٍ) .1 والآيات كما يدلّ سياقها نزلت بعد فتح مكّة وقد أذلّ اللَّه رقاب المشركين وأفنى‏ قوّتهم وأذهب شوكتهم ، وهي تعزم علَى المسلمين أن يطهّروا الأرض التي ملكوها وظهروا عليها من قذارة الشرك ، وتهدر دماء المشركين من دون أيّ قيد وشرط إلّا أن يؤمنوا ، ومع ذلك تستثني قوماً من المشركين بينهم وبين المسلمين عهد عدم التعرّض ، ولا تجيز للمسلمين أن يمسّوهم بسوء حينما استضعفوا واستذلّوا ،فلا مانع من ناحيتهم يمنع ولا دافع يدفع ، كلّ ذلك احتراماً للعهد ومراعاةً لجانب التقوى‏ .
نعم ، على‏ ناقض العهد بعد عقده أن ينقض العهد الذي نقضه ويتلقّى‏ هباءً باطلاً ، اعتداءً عليه بمثل ما اعتدى به ، قال تعالى : (كَيْفَ يَكونُ لِلمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ رَسُولِهِ إلّا الّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ فَما اسْتَقاموا لَكُمْ فاسْتَقيموا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ * - إلى‏ أن قالَ - لا يَرْقُبُونَ في مُؤمِنٍ إلّاً ولا ذِمَّةً واُولئكَ هُمُ المُعْتَدونَ * فإنْ تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فإخْوانُكُمْ في الدِّينِ ونُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمونَ * وإنْ نَكَثوا أيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنوا في دِينِكُمْ فقاتِلوا أئمَّةَ الكُفْرِ إنَّهُمْ لا أيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)2 ، وقال تعالى‏ : (فمَنِ اعْتَدى‏ علَيْكُمْ فاعْتَدوا علَيْهِ بمِثْلِ ما اعْتَدى‏ علَيْكُم واتَّقُوا اللَّهَ)3، وقال تعالى‏ : (ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أنْ صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ أنْ تَعْتَدوا وتَعاوَنُوا علَى البِرِّ والتَّقْوى‏ ولا تَعاوَنوا علَى الإثْمِ والعُدْوانِ واتَّقُوا اللَّهَ) .4
وجملة الأمر : أنّ الإسلام يرى‏ حرمة العهد ووجوب الوفاء به علَى الإطلاق ، سواء انتفع به العاهد أو تضرّر بعد ما أوثق الميثاق ؛ فإنّ رعاية جانب العدل الاجتماعيّ ألزم وأوجب

1.التوبة : ۱ - ۵ .

2.التوبة : ۷ - ۱۲ .

3.البقرة : ۱۹۴ .

4.المائدة : ۲ .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
478

وإنّا لو تأمّلنا الحياة الاجتماعيّة التي للإنسان وجدنا جميع المزايا التي نستفيد منها وجميع الحقوق الحيويّة الاجتماعيّة التي نطمئنّ إليها مبنيّة على‏ أساس العقد الاجتماعيّ العامّ والعقود والعهود الفرعيّة التي تترتّب عليه ، فلا نملّك من أنفسنا للمجتمعِين شيئاً ولا نملك منهم شيئاً إلّا عن عقد عمليّ وإن لم نأت بقول ؛ فإنّما القول لحاجة البيان ، ولو صحّ للإنسان أن ينقض ما عقده وعهد به اختياراً لتمكّنه منه بقوّة أو سلطة أو بطش أو لعذر يعتذر به كان أوّل ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعيّ ، وهو الركن الذي يلوذ به ويأوي إليه الإنسان من إسارة الاستخدام والاستثمار .
ولذلك أكّد اللَّه سبحانه في حفظ العهد والوفاء به ، قال تعالى‏ : (وأوْفُوا بِالعَهدِ إنَّ العَهْدَ كانَ مَسْؤولاً)1والآية تشمل العهد الفرديّ الذي يعاهد به الفرد الفرد ، مثل غالب الآيات المادحة للوفاء بِالعهد والذامّة لنقضه ، كما تشمل العهد الاجتماعيّ الدائر بين قوم وقوم واُمّة واُمّة ، بل الوفاء به في نظر الدين أهمّ منه بِالعهد الفرديّ ؛ لأنّ العدل عنده أتمّ والبليّة في نقضه أعمّ .
ولذلك أتَى الكتاب العزيز في أدقّ موارده وأهونها نقضاً بِالمنع عن النقض بأصرح القول وأوضح البيان ، قال تعالى‏ : (بَراءةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلَى الّذِينَ عاهَدتُم مِنَ المُشْرِكينَ * فَسِيحوا فِي الأرضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ واعْلَمُوا أ نَّكُم غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وأنَّ اللَّهَ مُخْزِي الكافِرينَ * وأذانٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلَى النّاسِ يَومَ الحَجِّ الأكْبَرِ أنَّ اللَّهَ بَري‏ءٌ مِنَ المُشرِكِينَ ورَسُولُهُ فإنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وإنْ تَوَلَّيْتُمْ فاعْلَمُوا أ نَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وبَشِّرِ الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أليمٍ * إلّا الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكينَ ثُمَّ لَم يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً ولَمْ يُظاهِروا علَيْكُمْ أحَداً فأتِمُّوا إلَيْهِم عَهْدَهُم إلى‏ مُدَّتِهِم إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقينَ * فإذا انسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ

1.الإسراء : ۳۴ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 226875
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي