511
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

أمّا اللّيلُ فَصافُّونَ أقدامَهُم ، تالِينَ لأِجزاءِ القُرآنِ ، يُرَتِّلونَها تَرتيلاً ، يُحَزِّنونَ بهِ أنفُسَهُم ، ويَستَثيرونَ بهِ دَواءَ دائهِم ، فإذا مَرُّوا بآيَةٍ فيها تَشويقٌ رَكَنوا إلَيها طَمَعاً ، وتَطَلَّعَت نُفوسُهُم إلَيها شَوقاً ، وظَنُّوا أ نّها نُصْبَ أعيُنِهِم ، وإذا مَرُّوا بآيَةٍ فيها تَخويفٌ أصغَوا إلَيها مَسامِعَ قُلوبِهِم ، وظَنُّوا أنّ زَفيرَ جَهَنَّمَ وشَهيقَها في اُصولِ آذانِهِم، فَهُم حانُونَ على‏ أوساطِهِم‏۱، مُفتَرِشُونَ لِجِباهِهِم وأكُفِّهِم ورُكَبِهِم وأطرافِ أقدامِهِم ، يَطلُبونَ إلَى اللَّهِ تعالى‏ في فَكاكِ رِقابِهِم .
وأمّا النَّهارُ فحُلَماءُ عُلَماءُ ، أبرارٌ أتقياءُ ، قَد بَراهُمُ الخَوفُ بَرْيَ القِداحِ ، يَنظُرُ إلَيهِمُ النّاظِرُ فيَحسَبُهُم مَرضى‏ ، وما بِالقومِ مِن مَرَضٍ ، ويقولُ : قَد خُولِطوا ! ولَقَد خالَطَهُم أمرٌ عَظيمٌ ! لا يَرضَونَ مِن أعمالِهِمُ القَليلَ ، ولا يَستَكثِرونَ الكثيرَ ، فَهُم لأنفُسِهِم مُتَّهِمونَ، ومن أعمالِهِم مُشفِقونَ. إذا زُكِّيَ أحَدٌ مِنهُم خافَ مِمّا يقالُ لَهُ ، فيَقولُ : أنا أعلَمُ بِنَفسي مِن غَيري ، ورَبّي أعلَمُ بي مِنّي بِنَفسي ! اللّهُمّ لا تُؤاخِذْني بِما يَقولونَ ، واجعَلْني أفضَلَ مِمّا يَظُنُّونَ ، واغفِرْ لي ما لا يَعلَمونَ .
فمِن عَلامَةِ أحَدِهِم أ نَّكَ تَرى‏ لَهُ قُوَّةً في دِينٍ ، وحَزماً في لِينٍ ، وإيماناً في يَقينٍ ، وحِرصاً في عِلمٍ ، وعِلماً في حِلمٍ ، وقَصداً في غِنى ، وخُشوعاً في عِبادَةٍ ، وتَجَمُّلاً في فاقَةٍ ، وصَبراً في شِدَّةٍ ، وطَلَباً في حَلالٍ ، ونَشاطاً في هُدىً ، وتَحَرُّجاً عَن طَمَعٍ . يَعمَلُ الأعمالَ الصّالِحَةَ وهُو على‏ وَجَلٍ ، يُمسي وَهَمُّهُ الشُّكرُ ، ويُصبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكرُ ، يَبِيتُ حَذِراً ، ويُصبِحُ فَرِحاً ؛ حَذِراً لِما حُذِّرَ مِن الغَفلَةِ ، وفَرِحاً بما أصابَ مِن الفَضلِ والرَّحمَةِ .
إن اِستَصعَبَت علَيهِ نَفسُهُ فيما تَكرَهُ لَم يُعْطِها سُؤلَها فيما تُحِبُّ . قُرَّةُ عَينِهِ فِيما لا يَزولُ ، وزَهادَتُهُ فِيما لا يَبقى‏ ، يَمزُجُ الحِلمَ بِالعِلمِ والقَولَ بِالعَمَلِ . تَراهُ قَريباً أمَلُهُ ، قَليلاً زَلَلُهُ ، خاشِعاً قَلبُهُ ، قانِعَةً نَفسُهُ ، مَنزوراً أكلُهُ ، سَهلاً

1.حَنَيَت ظهري وحَنَيْتُ العُوَد : عَطَفتُه (الصحاح : ۶/۲۳۲۱) .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
510

مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) .۱

(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏) .۲

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للَّهِ‏ِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى‏ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) .۳

(انظر) البقرة : 2 - 5 ، آل عمران : 133 - 136 .

الحديث :

۲۲۴۲۱.نهج البلاغة : رُويَ أنّ صاحِباً لأميرِ المؤمنينَ عليه السلام يقالُ لَهُ هَمّامٌ كانَ رجُلاً عابِداً ، فقالَ لَهُ : يا أميرَ المؤمِنينَ ، صِفْ لِيَ المُتَّقينَ ، حتّى‏ كأنّي أنظُرُ إلَيهِم ، فتَثاقَلَ عليه السلام عن جَوابِهِ ، ثُمّ قالَ : يا هَمّامُ ، اتَّقِ اللَّهَ وأحسِنْ ! فإنَّ اللَّهَ مَع الّذينَ اتَّقَوا والّذينَ هُم مُحسِنونَ .
فلَم يَقنَعْ هَمّامٌ بهذا القَولِ حتّى‏ عَزمَ علَيهِ ، فحَمِدَ اللَّهَ وأثنى‏ علَيهِ وصلّى‏ علَى النَّبيِّ صلى اللَّه عليه وآله ثُمّ قالَ عليه السلام : أمّا بَعدُ، فإنّ اللَّهَ سبحانَهُ وتعالى‏ خَلَقَ الخَلقَ حِينَ خَلَقَهُم غَنِيّاً عَن طاعَتِهِم ، آمِناً مِن مَعصِيَتِهِم ؛ لأنّهُ لا تَضُرُّهُ مَعصِيَةُ مَن عَصاهُ ، ولا تَنفَعُهُ طاعَةُ مَن أطاعَهُ ، فقَسَمَ بَينَهُم مَعايِشَهُم ، ووَضَعَهُم مِن الدُّنيا مَواضِعَهُم .
فالمُتَّقونَ فيها هُم أهلُ الفَضائلِ : مَنطِقُهُمُ الصَّوابُ ، ومَلبَسُهُمُ الاقتِصادُ ، ومَشيُهُمُ التَّواضُعُ ، غَضُّوا أبصارَهُم عَمّا حَرَّمَ اللَّهُ علَيهِم ، ووَقَفوا أسماعَهُم علَى العِلمِ النّافِعِ لَهُم ، نُزِّلَت أنفُسُهُم مِنهُم في البَلاءِ كالّتي نُزِّلَت في الرَّخاءِ ، ولَولا الأجَلُ الّذي كَتَبَ اللَّهُ علَيهم لَم تَستَقِرَّ أرواحُهُم في أجسادِهِم طَرفَةَ عَينٍ ؛ شَوقاً إلَى الثَّوابِ ، وخَوفاً مِن العِقابِ .
عَظُمَ الخالِقُ في أنفُسِهِم فصَغُرَ ما دُونَهُ في أعيُنِهِم ، فَهُم والجَنَّةُ كَمَن قَد رَآها فَهُم فِيها مُنَعَّمونَ ، وهُم والنّارُ كَمَن قَد رآها فَهُم فِيها مُعَذَّبونَ . قُلوبُهُم مَحزونَةٌ ، وشُرورُهُم مَأمونَةٌ ، وأجسادُهُم نَحيفَةٌ ، وحاجاتُهُم خَفيفَةٌ ، وأنفُسُهُم عَفيفَةٌ ، صَبَروا أيّاماً قَصيرَةً أعقَبَتهُم راحَةً طَويلَةً ، تِجارَةٌ مُربِحَةٌ يَسَّرَها لَهُم رَبُّهم . أرادَتهُمُ الدُّنيا فلَم يُريدوها ، وأسَرَتهُم فَفَدَوا أنفُسَهُم مِنها .

1.الذاريات : ۱۵ - ۱۹ .

2.البقرة : ۲۳۷ .

3.المائدة : ۸ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 183343
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي