519
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

الماضون علَى الأفراد إلَى المجتمعات ، فقامت الاُمّة اليوم مقام الفرد بالأمس ، وهجرت الألفاظ معانيها إلى‏ أضدادها ، تطلق الحرّيّة والشرافة والعدالة والفضيلة ولا يراد بها إلّا الرقّيّة والخسّة والظلم والرذيلة .
وبِالجملة : السنن والقوانين لا تأمن التخلّف والضيعة إلّا إذا تأسّست على‏ أخلاق كريمة إنسانيّة واستظهرت بها .
ثمّ الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع ولا تسوق الإنسان الى‏ صلاح العمل إلّا إذا اعتمدت علَى التوحيد وهو الإيمان بأنّ للعالم - ومنه الإنسان - إلهاً واحداً سرمديّاً لا يعزب عن علمه شي‏ء ، ولا يغلب في قدرته عن أحد ، خلق الأشياء على‏ أكمل نظام لا لحاجة منه إليها ، وسيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه ويعاقب المسي‏ء بإساءته ، ثمّ يخلّدون منعّمين أو معذّبين .
ومن المعلوم أنّ الأخلاق إذا اعتمدت على‏ هذه العقيدة لم يبق للإنسان همّ إلّا مراقبة رضاه تعالى‏ في أعماله ، وكان التقوى‏ رادعاً داخليّاً له عن ارتكاب الجرم . ولولا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة - عقيدة التوحيد - لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيويّة إلّا التمتّع بمتاع الدنيا الفانية والتلذّذ بلذائذ الحياة المادّيّة . وأقصى‏ ما يمكنه أن يعدل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعيّة الحيويّة أن يفكّر في نفسه ، أنّ من الواجب عليه أن يلتزم القوانين الدائرة حفظاً للمجتمع من التلاشي وللاجتماع من الفساد ، وأنّ من اللازم عليه أن يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي ، ويثني عليه الناس ويمدحوه ما دام حيّاً أو يكتب اسمه في أوراق التاريخ بخطوط ذهبيّة .
أمّا ثناء الناس وتقديرهم العمل فإنّما يجري في اُمور هامّة علموا بها ، أمّا الجزئيّات وما لم يعلموا بها


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
518

ووقع الإجرام على‏ جهل منها أو غفلة - وكم له من وجود - فلا مانع يمنع من تحقّقه ، والقوانين لا أيدي لها تبطش بها ، وكذا إذا ضعفت الحكومة بفقد القوَى اللازمة أو مساهلة في السياسة والعمل فظهر عليها المجرم أو كان المجرم أشدّ قوّة ضاعت القوانين وفشت التخلّفات والتعدّيات على‏ حقوق الناس . والإنسان - كما مرّ مراراً في المباحث السابقة من هذا الكتاب - مستخدم بِالطبع يجرّ النفع إلى‏ نفسه ولو أضرّ غيره .
ويشتدّ هذا البلوى‏ إذا تمركزت هذه القوة في القوّة المجرية أو من يتولّى‏ أزمّة جميع الاُمور ، فاستضعف الناس وسلب منهم القدرة على‏ ردّه إلَى العدل وتقويمه بِالحقّ ، فصار ذا قوّة وشوكة لا يقاوم في قوّته ولا يعارض في إرادته .
والتواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة والطواغيت وتحكّماتهم الجائرة علَى الناس، وهو ذا نصب أعيننا في أكثر أقطار الأرض.
فالقوانين والسنن وإن كانت عادلة في حدود مفاهيمها ، وأحكام الجزاء وإن كانت بِالغة في شدّتها ، لا تجري على‏ رسلها في المجتمع ولا تسدّ باب الخلاف وطريق التخلّف إلّا بأخلاق فاضلة إنسانيّة تقطع دابر الظلم والفساد ، كملكة اتّباع الحقّ واحترام الإنسانيّة والعدالة والكرامة والحياة ونشر الرحمة ونظائرها .
ولا يغرّنّك ما تشاهده من القوّة والشوكة في الاُمم الراقية والانتظام والعدل الظاهر فيما بينهم ولم يوضع قوانينهم على‏ اُسس أخلاقيّة حيث لا ضامن لإجرائها فإنّهم اُمم يفكّرون فكرة اجتماعيّة لا يرى الفرد منهم إلّا نفع الاُمّة وخيرها ولا يدفع إلّا ما يضرّ اُمّته ، ولا همّ لاُمّته إلّا استرقاق سائر الاُمم الضعيفة واستدرارهم ، واستعمار بلادهم ، واستباحة نفوسهم وأعراضهم وأموالهم ، فلم يورثهم هذا التقدّم والرقيّ إلّا نقل ما كان يحمله الجبابرة

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 233952
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي