523
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

ولذلك يرى‏ أهل هذا الطريق أنّ الطريقَين الآخرَين أعني طريق العبادة خوفاً وطريق العبادة طمعاً لا يخلوان من شرك ، فإنّ الذي يعبده تعالى‏ خوفاً من عذابه يتوسّل به تعالى‏ إلى‏ دفع العذاب عن نفسه ، كما أنّ من يعبده طمعاً في ثوابه يتوسّل به تعالى‏ إلَى الفوز بِالنعمة والكرامة ، ولو أمكنه الوصول إلى‏ ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده ولا حام حول معرفته ، وقد تقدّمت الرواية عن الصادق عليه السلام : «هَلِ الدِّينُ إلّا الحُبُّ» وقوله عليه السلام في حديث : «وإنّي أعبُدُهُ حُبّاً لَهُ وهذا مَقامٌ مَكنونٌ لا يَمَسُّهُ إلّا المُطَهَّرونَ...» الحديث . وإنّما كان أهل الحبّ مطهَّرين لتنزّههم عن الأهواء النفسانيّة والألواث المادّيّة ، فلا يتمّ الإخلاص في العبادة إلّا من طريق الحبّ .

3 - كيف يورث الحبّ الإخلاص ؟

عبادته تعالى‏ خوفاً من العذاب تبعث الإنسان الَى التُّروك وهو الزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة ، فالزاهد من شأنه أن يتجنّب المحرّمات أو ما في معنَى الحرام أعني ترك الواجبات . وعبادته تعالى‏ طمعاً في الثواب تبعث إلَى الأفعال وهو العبادة في الدنيا بِالعمل الصالح لنيل نعم الآخرة والجنّة ، فالعابد من شأنه أن يلتزم الواجبات أو ما في معنَى الواجب وهو ترك الحرام ، والطريقان معاً إنّما يدعوان إلَى الإخلاص للدِّين لا لربّ الدِّين .
وأمّا محبّة اللَّه سبحانه فإنّها تطهّر القلب من التعلّق بغيره تعالى‏ من زخارف الدنيا وزينتها، من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتَّى النفس وما لها من حظوظ وآمال ، وتقصر القلب في التعلّق به تعالى‏ وبما ينسب إليه من دِين أو نبيّ أو وليّ وسائر ما يرجع إليه تعالى‏ بوجه ؛ فإنّ حبّ الشي‏ء حبّ لآثاره .
فهذا الإنسان يحبّ من الأعمال ما يحبّه اللَّه ، ويبغض منها ما يبغضه اللَّه ،


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
522

في قلوبهم المحبّة الإلهيّة ؛ وذلك أنّهم يعرفون ربّهم بما عرّفهم به نفسه ، وقد سمّى‏ نفسه بأحسن الأسماء ووصف ذاته بكلّ صفة جميلة ، ومن خاصّة النفس الإنسانيّة أن تنجذب إلَى الجميل فكيف بِالجميل علَى الإطلاق ؟! وقال تعالى‏ : (ذلِكُمُ اللَّهُ ربُّكُمْ لا إلهَ إلّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فاعْبُدُوهُ)۱ ثمّ قال : (الّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ)۲ فأفاد أنّ الخلقة تدور مدار الحسن ، وأنّهما متلازمان متصادقان . ثمّ ذكر سبحانه في آيات كثيرة أنّ ما خلقه من شي‏ء آية تدلّ عليه وأنّ في السماوات والأرض لآيات لاُولي الألباب ، فليس في الوجود ما لا يدلّ عليه تعالى‏ ولا يحكي شيئاً من جماله وجلاله .
فالأشياء من جهة أنواع خلقها وحسنها تدلّ على جماله الذي لا يتناهى‏، ويحمده ويثني على‏ حسنه الذي لا يفنى ، ومن جهة ما فيها من أنواع النقص والحاجة تدلّ على‏ غناه المطلق وتسبّح وتنزّه ساحة القدس والكبرياء ، كما قال تعالى‏ : (وإنْ مِن شَيْ‏ءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) .۳
فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريق هداهم إليه ربّهم وعرّفها لهم ، وهو أنّها آيات له وعلامات لصفات جماله وجلاله ، وليس لها من النفسيّة والأصالة والاستقلال إلّا أنّها كمرائي تجلّي بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي ، وبفقرها وحاجتها ما أحاط بها من الغنَى المطلق ، وبذلّتها واستكانتها ما فوقها من العزّة والكبرياء . ولا يلبث الناظر إلَى الكون بهذه النظرة دون أن تنجذب نفسه إلى‏ ساحة العزّة والعظمة ، ويغشى‏ قلبه من المحبّة الإلهيّة ما ينسيه نفسه وكلّ شي‏ء ، ويمحو رسم الأهواء والأميال النفسانيّة عن باطنه ، ويبدّل فؤاده قلباً سليماً ليس فيه إلّا اللَّه عزّ اسمه ، قال تعالى‏ : (والّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبّاً للَّهِ‏ِ) .۴

1.الأنعام : ۱۰۲ .

2.السجدة : ۷ .

3.الإسراء : ۴۴ .

4.البقرة : ۱۶۵ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 226996
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي