525
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

لهم ليس إلّا آية كاشفة عن الحقّ المتعال لا حجاباً ساتراً ، فيفيض عليهم ربّهم علم اليقين ، ويكشف لهم عمّا عنده من الحقائق المستورة عن هذه الأعين المادّيّة العميّة بعد ما يرفع الستر فيما بينه وبينهم ، كما يشير إليه قوله تعالى‏ : (كلّا إنَّ كِتابَ الأبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وما أدْراكَ ما عِلِّيُّونَ * كِتابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ)۱ ، وقوله تعالى‏ : (كَلّا لَو تَعْلَمُون عِلْمَ اليَقينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحيمَ) .۲ وقد تقدّم كلام في هذا المعنى‏ في ذيل قوله تعالى‏ : (يا أ يُّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُم أنْفُسَكُم)۳ في الجزء السادس من الكتاب .
وبِالجملة : هؤلاء في الحقيقة هم المتوكّلون علَى اللَّه ، المفوّضون إليه ، الراضون بقضائه ، المسلّمون لأمره ؛ إذ لايرون إلّا خيراً ولا يشاهدون إلّا جميلاً ، فيستقرّ في نفوسهم من الملكات الشريفة والأخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد ، فهم مخلصون للَّه في‏أخلاقهم كما كانوا مخلصين له في أعمالهم ، هذا معنى‏ إخلاص العبد دينه للَّه ، قال تعالى‏ : (هُوالحَيُّ لا إلهَ إلّا هُوَ فادْعُوهُ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ) .۴

4 - وأمّا إخلاصه تعالى‏ عبدَه له :

فهو ما يجده العبد في نفسه من الإخلاص له منسوباً إليه تعالى‏ ؛ فإنّ العبد لا يملك من نفسه شيئاً إلّا باللَّه ، واللَّه سبحانه هوالمالك لما ملّكه إ يّاه ، فإخلاصه دينه - وإن شئت فقل : إخلاصه نفسه للَّه - هو إخلاصه تعالى‏ إ يّاه لنفسه .
نعم ههنا شي‏ء وهو أنّ اللَّه سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء علَى استقامة الفطرة واعتدال الخلقة ، فنشؤوا من بادئ الأمر بأذهان وقّادة وإدراكات صحيحة ونفوس طاهرة وقلوب سليمة، فنالوا بمجرّد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الإخلاص ما

1.المطفّفين : ۱۸ - ۲۱ .

2.التكاثر : ۵ ، ۶ .

3.المائدة : ۱۰۵ .

4.غافر : ۶۵ .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
524

ويرضَى برضا اللَّه ولرضاه ، ويغضب بغضب اللَّه ولغضبه ، وهو النور الذي يضي‏ء له طريق العمل ، قال تعالى‏ : (أوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشي بهِ في النّاسِ) .۱ والروح الذي يشير إليه بِالخيرات والأعمال الصالحات ، قال تعالى‏: (وأيَّدَهُم بِرُوحٍ مِنْهُ)۲ وهذا هو السرّ في أنّه لايقع منه إلّا الجميل والخير ويتجنّب كلّ مكروه وشرّ .
وأمّا الموجودات الكونيّة والحوادث الواقعة فإنّه لا يقع بصره على‏ شي‏ء منها خطير أو حقير ، كثير أو يسير إلّا أحبّه واستحسنه ؛ لأنّه لا يرى‏ منها إلّا أنّها آيات محضة تجلي له ما وراءها من الجمال المطلق والحسن الذي لا يتناهَى العاري من كلّ شين ومكروه .
ولذلك كان هذا الإنسان محبوراً بنعمة ربّه بسرور لا غمّ معه ، ولذّة وابتهاج لا ألم ولا حزن معه ، وأمن لا خوف معه ، فإنّ هذه العوارض السوء إنّما تطرأ عن إدراك للسوء وترقّب للشرّ والمكروه . ومن كان لايرى‏ إلّا الخير والجميل ولا يجد إلّا ما يجري على‏ وفق إرادته ورضاه، فلا سبيل للغمّ والحزن والخوف وكلّ ما يسوء الإنسان ويؤذيه إليه ، بل ينال من السرور والابتهاج والأمن ما لايقدّره ولايحيط به إلّا اللَّه سبحانه . وهذا أمر ليس في وسع النفوس العاديّة أن تتعقّله وتكتنهه إلّا بنوع من التصوّر الناقص .
وإليه يشير أمثال قوله تعالى‏ : (ألا إنّ أوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ علَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنونَ * الّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ)۳ ، وقوله : (الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسوا إيمانَهُم بِظُلْمٍ أُولئكَ لَهُمُ الأمْنُ وهُمْ مُهْتَدونَ) .۴
وهؤلاء هم المقرّبون الفائزون بقربه تعالى‏ ؛ إذ لا يحول بينهم وبين ربّهم شي‏ء ممّا يقع عليه الحسّ أو يتعلّق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان ؛ فإنّ كلّ ما يتراءى‏

1.الأنعام : ۱۲۲ .

2.المجادلة : ۲۲ .

3.يونس : ۶۲ ، ۶۳ .

4.الأنعام : ۸۲ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 226850
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي