527
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

وقوله تعالى‏ حكاية عن يوسف عليه السلام: (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أحَبَّ إلَيَّ مِمّا يَدْعُونَني إلَيْهِ وإنْ لا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلينَ) .1 وقد أوضحنا وجه دلالة الآية على‏ ذلك .
ويظهر من ذلك أوّلًا : أنّ هذا العلم يخالف سائر العلوم في أنّ أثره العمليّ وهو صَرف الإنسان عمّا لاينبغي إلى‏ ما ينبغي قطعيّ غير متخلّف دائماً ، بخلاف سائر العلوم فإنّ الصرف فيها أكثريّ غير دائم ، قال تعالى‏ : (وجَحَدوا بها واسْتَيْقَنَتْها أنفُسُهُمْ)2 ، وقال : (أفرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهَهُ هَواهُ وأضَلَّهُ اللَّهُ على‏ عِلْمٍ)3 ، وقال : (فمَا اخْتَلَفُوا إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُم) .4
ويدلّ على‏ ذلك أيضاً قوله تعالى‏ : (سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يَصِفُونَ إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصينَ) ، وذلك أنّ هؤلاء المخلَصين من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام قد بيّنوا لنا جمل المعارف المتعلّقة بأسمائه تعالى‏ وصفاته من طريق السمع ، وقد حصلنا العلم به من طريق البرهان أيضاً ، والآية مع ذلك تنزّهه تعالى‏ عمّا نصفه به دون ما يصفه به اُولئك المخلصون ، فليس إلّا أنّ العلم غير العلم وإن كان متعلّق العلمين واحداً من وجه .
وثانياً : أنّ هذا العلم أعني ملَكة العصمة لا يغيّر الطبيعة الإنسانيّة المختارة في أفعالها الإراديّة ولا يخرجها إلى‏ ساحة الإجبار والاضطرار ، كيف ؟ والعلم من مبادئ الاختيار ، ومجرّد قوّة العلم لايوجب إلّا قوّة الإرادة ، كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائعٍ ما سمّاً قاتلاً من حينه فإنّه يمتنع باختياره من شربه قطعاً ، وإنما يضطرّ الفاعل ويجبر إذا أخرج من يجبره أحد طرفَي الفعل والترك من الإمكان إلَى الامتناع .
ويشهد على‏ ذلك قوله : (واجْتَبَيْناهُمْ وهَدَيْناهُمْ إلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ * ذلكَ هُدَى‏ اللَّهِ يَهْدِي بهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ولَوْ أشْرَكوا

1.يوسف : ۳۳ .

2.النمل : ۱۴ .

3.الجاثية : ۲۳ .

4.الجاثية : ۱۷ .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
526

ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب بل أعلى‏ وأرقى‏ ؛ لطهارة داخلهم من التلوّث بألواث الموانع والمزاحمات . والظاهر أنّ هؤلاء هم المخلَصون - بِالفتح - للَّه في عرف القرآن .
وهؤلاء هم الأنبياء والأئمّة، وقد نصّ القرآن بأنّ اللَّه اجتباهم أي جمعهم لنفسه وأخلصهم لحضرته ، قال تعالى‏ : (واجْتَبَيْناهُمْ‏وهَدَيْناهُمْ‏إلى‏ صِراطٍمُسْتَقيمٍ)۱ ، وقالَ :(هُوَ اجْتَباكُم وماجَعَلَ علَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) .۲
وآتاهم اللَّه سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي ، وتمتنع معه صدور شي‏ء منها عنهم صغيرة أو كبيرة. وبهذا يمتاز العصمة من العدالة ؛ فإنّهما معاً تمنعان من صدور المعصية، لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة .
وقد تقدّم آنفاً أنّ من خاصّة هؤلاء القوم أنّهم يعلمون من ربّهم ما لايعلمه غيرهم ، واللَّه سبحانه يصدّق ذلك بقوله : (سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يَصِفُونَ * إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصينَ)۳ ، وأنّ المحبّة الإلهيّة تبعثهم على‏ أن لا يريدوا إلّا ما يريده اللَّه وينصرفوا عن المعاصي ، واللَّه سبحانه يقرّر ذلك بما حكاه عن إبليس في غير مورد من كلامه كقوله : (قالَ فَبِعزَّتِكَ لاُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ * إلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ) .۴
ومن الدليل على‏ أنّ العصمة من قبيل العلم قوله تعالى‏ خطاباً لنبيّه صلى اللَّه عليه وآله : (و لَولا فَضْلُ اللَّهِ علَيكَ ورَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائفةٌ مِنهُمْ أنْ يُضِلُّوكَ وما يُضِلُّونَ إلّا أنفُسَهُمْ وما يَضُرُّونَكَ مِن شَي‏ءٍ وأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللَّهِ علَيْكَ عَظيماً) .۵ وقد فصّلنا الكلام في معنَى الآية في تفسير سورة النساء .

1.الأنعام : ۸۷ .

2.الحجّ : ۷۸ .

3.الصافّات : ۱۵۹ ، ۱۶۰.

4.ص : ۸۲ ، ۸۳ .

5.النساء : ۱۱۳ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 226838
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي