533
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

وذلك أ نّك عرفت أنّ الإسلام بِالمعنَى الذي نبحث فيه غاية النوع الإنسانيّ وكماله الذي هو بغريزته متوجّه إليه شعر به تفصيلاً أولم يشعر ، والتجارب القطعيّة الحاصلة في أنواع المكوّنات يدلّ على‏ أ نّها متوجّهة إلى‏ غايات مناسبة لوجوداتها يسوقها إليها نظام الخلقة ، والإنسان غير مستثنىً من هذه الكلّيّة .
على‏ أنّ شيئاً من السنن والطرائق الدائرة في الدنيا الجارية بين المجتمعات الإنسانيّة لم يَتّكِ في حدوثه وبقائه وحكومته على‏ سبق تجربة قاطعة ؛ فهذه شرائع نوح وإبراهيم وموسى‏ وعيسى‏ ظهرت حينما ظهرت ثمّ جرت بين الناس ، وكذا ما أتى‏ به برهما وبوذا وماني وغيرهم ، وتلك سنن المدنيّة المادّية كالديموقراطيّة والكمونيسم وغيرهما ، كلّ ذلك جرى‏ في المجتمعات الإنسانيّة المختلفة بجرياناتها المختلفة من غير سبق تجربة .
وإنّما تحتاج السنن الاجتماعيّة في ظهورها ورسوخها في المجتمع إلى‏ عزائم قاطعة وهمم عالية من نفوس قويّة لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى‏ مآربها عيّ ولا نصب ، ولاتذعن بأنّ الدهر قد لايسمح بِالمراد والمسعى‏ قد يخيب . ولا فرق في ذلك بين الغايات والمآرب الرحمانيّة والشيطانيّة .۱

(انظر) الخاتمة : باب 1003، 1004 .
بحار الأنوار : 70 / 293 / 36 ، 37 .

1.الميزان في تفسير القرآن : ۴/۱۳۱ .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
532

عرفت أنّ هذا هو الإسلام ودين التوحيد .
وأمّا الانحرافات الواقعة في سير الإنسانيّة نحو غايته وفي ارتقائه إلى‏ أوج كماله فإنّما هو من جهة الخطأ في التطبيق لا من جهة بطلان حكم الفطرة . والغاية التي يعقبها الصنع والإيجاد لا بدّ أن تقع يوماً معجّلاً أو على‏ مهل ، قال تعالى‏ : (فأقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ علَيْها لاتَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولكنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمونَ) يُريدُ أ نّهم لا يعلمون ذلك علماً تفصيليّاً وإن علمَته فطرتهم إجمالاً، «إلى‏ أن قال»: (لِيَكْفُروا بِما آتَيْناهُمْ فتَمَتَّعوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)« إلى‏ أن قال » : (ظَهَرَ الفَسادُ في البَرِّ والبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ لِيُذيقَهُمْ بَعْضَ الّذي عَمِلوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعونَ)۱وقال تعالى‏ : (فَسَوْفَ يَأتي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ علَى المُؤمِنينَ أعِزَّةٍ علَى الكافِرينَ يُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)۲ ، وقال تعالى‏ : (ولَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحونَ)۳ ، وقال تعالى‏ : (والعاقِبَةُ لِلتَّقوى‏)۴ ، فهذه وأمثالها آيات تخبرنا أنّ الإسلام سيظهر ظهوره التامّ فيحكم على الدنيا قاطبة .
ولا تُصغ إلى‏ قول من يقول : إنّ الإسلام وإن ظهر ظهوراً ما وكانت أيّامه حلقة من سلسلة التاريخ فأثّرت أثرها العامّ في الحلقات التالية واعتمدت عليها المدنيّة الحاضرة شاعرة بها أو غير شاعرة، لكن ظهوره التامّ أعني حكومة ما في فرضيّة الدين بجميع موادّها وصورها وغاياتها ممّا لايقبله طبع النوع الإنسانيّ ولن يقبله أبداً ، ولم يقع عليه بهذه الصفة تجربة حتّى‏ يوثق بصحّة وقوعه خارجاً وحكومته علَى النوع تامّة .

1.الروم : ۳۰ - ۴۱ .

2.المائدة : ۵۴ .

3.الأنبياء : ۱۰۵ .

4.طه : ۱۳۲ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 226710
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي