585
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

المملكة وتحكيم أساس الدولة ، ويعتقد أنّ ذلك حقّ نبوغه وسيادته ، ويستدلّ عليه بسيفه . كذلك إذا تعمّقتَ في المرابطات السياسيّة الدائرة بين أقوياء الاُمم وضعفائهم اليوم وجدت أنّ التاريخ وحوادثه كرّت علينا ولن تزال تكرّ ، غير أنّها أبدلت الشكل السابق الفرديّ بِالشكل الحاضر الاجتماعيّ ، والروح هي الروح والهوى‏ هو الهوى‏ . وأمّا الإسلام فطريقته بريئة من هذه الأهواء ، ودليله السيرة النبويّة في فتوحاته وعهوده .
ومنها : أنّ أقسام الاجتماعات - على‏ ماهو مشهود ومضبوط في تاريخ هذا النوع - لا تخلو عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤدٍّ إلَى الفساد ؛ فإنّ اختلاف الطبقات بِالثروة أو الجاه والمقام المؤدّي بالأخرة إلى‏ بروز الفساد في المجتمع من لوازمها ، لكنّ المجتمع الإسلاميّ مجتمع متشابه الأجزاء لا تقدّم فيها للبعض علَى البعض ، ولا تفاضل ولا تفاخر ولا كرامة ، وإنّما التفاوت الذي تستدعيه القريحة الإنسانيّة ولا تسكت عنه إنّما هو في التقوى‏ وأمره إلَى اللَّه سبحانه لا إلَى الناس ، قال تعالى‏ : (يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكُم مِنْ ذَكَرٍ واُنْثَى‏ وجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُمْ)۱ ، وقالَ تعالى‏ : (فاسْتَبِقوا الخَيْراتِ)۲ ؛ فالحاكم والمحكوم والأمير والمأمور والرئيس والمرؤوس والحرّ والعبد والرجل والمرأة والغنيّ والفقير والصغير والكبير في الإسلام في موقف سواء ، من حيث جريان القانون الدينيّ في حقّهم ، ومن حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشؤون الاجتماعيّة ، على‏ ماتدلّ عليه السيرة النبويّة على‏ سائرها السلام والتحيّة .
ومنها : أنّ القوّة المجرية في الإسلام ليست هي طائفة متميّزة في المجتمع بل تعمّ جميع أفراد المجتمع ، فعلى‏ كلّ فرد أن يدعو إلَى الخير

1.الحجرات : ۱۳ .

2.البقرة : ۱۴۸ .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
584

التأثير الطبيعيّ الذي لأجزاء المجتمع الإسلاميّ في مجتمعهم مراعى عند اللَّه سبحانه تشريعاً كما راعاه تكويناً وأنّه تعالى‏ لايضيعه ، وقال تعالى‏ : (إنَّ الأرْضَ للَّهِ يُورِثُها مَن يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ والعاقِبَةُ للمُتَّقينَ) .۱
نعم ، لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله الدعوة والهداية والتربية ، قال تعالى‏ : (يَتْلُو عَلَيْهِم آياتِهِ ويُزَكِّيهِم ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ)۲ ، فهو صلى اللَّه عليه وآله المتعيّن من عند اللَّه للقيام على‏ شأن الاُمّة وولاية اُمورهم في الدنيا والآخرة وللإمامة لهم مادام حيّاً .
لكنّ الذي يجب أن لا يغفل عنه الباحث أنّ هذه الطريقة غير طريقة السلطة الملوكيّة التي تجعل مال اللَّه فيئاً لصاحب العرش ، وعباد اللَّه أرقّاء له يفعل بهم مايشاء ويحكم فيهم ما يريد ، وليست هي من الطرق الاجتماعيّة التي وضعت على‏ أساس التمتّع المادّيّ من الديموقراطيّة وغيرها ؛ فإنّ بينها وبين الإسلام فروقاً بيّنة مانعة من التشابه والتماثل .
ومن أعظمها أنّ هذه المجتمعات لمّا بُنيت على‏ أساس التمتّع المادّيّ نفخت في قالبها روح الاستخدام والاستثمار ، وهو الاستكبار الإنسانيّ الذي يجعل كلّ شي‏ء تحت إرادة الإنسان وعمله حتَّى الإنسان بِالنسبة إلَى الإنسان ، ويبيح له طريق الوصول إليه والتسلّط على ما يهواه ويأمله منه لنفسه . وهذا بعينه هو الاستبداد الملوكيّ في الأعصار السالفة ، وقد ظهرت في زيّ الاجتماع المدنيّ على‏ ماهو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القويّة وإجحافاتهم وتحكّماتهم بِالنسبة إلَى الاُمم الضعيفة ، وعلى‏ ماهو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التواريخ .
فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يُجري في ضعفاء عهده بتحكّمه ولعبه كلّ ما يريده ويهواه ، ويعتذر - لو اعتذر - أنّ ذلك من شؤون السلطنة ولصلاح

1.الأعراف : ۱۲۸ .

2.الجمعة : ۲ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 226714
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي