87
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

يَتَوَفّاكُم مَلَكُ المَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم ...) الآية ، وحاصل الجواب : أنّ هناك ملكاً موكّلاً بكم هو يتوفّاكم ويأخذكم ، ولا يدعكم تضلّوا وأنتم في قبضته وحفاظته، وما تضلّ في الأرض إنّما هو أبدانكم لا نفوسكم التي هي المدلول عليها بلفظ «كم» فإنّه يتوفّاكم .
ومن الآيات قوله تعالى‏ : (ونَفَخَ فيهِ مِن رُوحِهِ ...) الآية1 ، ذكره في خلق الإنسان ثمّ قال تعالى‏ : (يَسْألونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي)2 فأفاد أنّ الرّوح من سنخ أمره ، ثمّ عرّف الأمر في قوله تعالى‏ : (إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئاً أن يَقولَ لَهُ كُنْ فَيَكونُ * فَسُبْحانَ الّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ)3فأفاد أنّ الروح من الملكوت ، وأنّها كلمة «كُن» . ثمّ عرّف الأمر بتوصيفه بوصف آخر بقوله : (وَما أمْرُنا إلّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبَصَرِ)4 ، والتعبير بقوله : (كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ) يعطي أنّ الأمر الذي هو كلمة «كُن» موجود دفعيّ الوجود غير تدريجيّه ، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده وتقييده بزمان أو مكان ، ومن هنا يتبيّن أنّ الأمر - ومنه الروح - شي‏ء غير جسمانيّ ولا مادّيّ ، فإنّ الموجودات المادّيّة الجسمانيّة من أحكامها العامّة أنّها تدريجيّة الوجود ، مقيّدة بالزمان والمكان ، فالروح التي للإنسان ليس بمادّيّة جسمانيّة ، وإن كان لها تعلّق بها .
وهناك آيات تكشف عن كيفيّة هذا التعلّق ، فقد قال تعالى‏ : (مِنْها خَلَقْناكُمْ)5 ، وقال تعالى‏ : (خَلَقَ الإنْسانَ مِن صَلْصالٍ كالفَخّارِ)6 ، وقال تعالى‏ : (وبَدَأ خَلْقَ الإنسانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِن ماءٍ مَهينٍ)7 ، ثمّ قال سبحانه وتعالى‏ : (ولَقَد خَلَقْنا الإنْسانَ من سُلالَةٍ من طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكينٍ * ثُمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فخَلَقْنا العَلَقَة مُضْغَةً فَخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنا العِظامَ

1.السجدة : ۹ .

2.الإسراء : ۸۵ .

3.يس : ۸۲ و ۸۳ .

4.القمر : ۵۰ .

5.طه : ۵۵ .

6.الرحمن : ۱۴ .

7.السجدة : ۷ و ۸ .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
86

وسائر الآيات الّتي ذكرناها حقيقة اُخرى‏ أوسع من ذلك ، وهي تجرّد النفس ؛ بمعنى‏ كونها أمراً وراء البدن وحكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسميّة ، لها نحوُ اتّحاد بالبدن تدبّرها بالشعور والإرادة وسائر الصفات الإدراكيّة . والتدبّر في الآيات السابقة الذكر يجلّي هذا المعنى‏ ؛ فإنّها تفيد أنّ الإنسان بشخصه ليس بالبدن ، لا يموت بموت البدن ، ولا يفنى‏ بفنائه وانحلال تركيبه وتبدّد أجزائه ، وأنّه يبقى‏ بعد فناء البدن في عيش هني‏ء دائم ونعيم مقيم ، أو في شقاء لازم وعذاب أليم ، وأنّ سعادته في هذه العيشة وشقاءه فيها مرتبطة بسنخ ملكاته وأعماله ، لا بالجهات الجسمانيّة والأحكام الاجتماعيّة .
فهذه معانٍ تعطيها هذه الآية الشريفة ، وواضح أنّها أحكام تغاير الأحكام الجسمانيّة ، وتتنافى والخواصّ المادّية الدنيويّة من جميع جهاتها ، فالنفس الإنسانيّة غير البدن .
وممّا يدلّ عليه من الآيات قوله تعالى‏ : (اللَّه يَتَوفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والّتي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها فَيُمْسِكُ الّتي قَضَى‏ علَيْها المَوْتَ ويُرْسِلُ الاُخْرى‏)1، والتَّوفّي والاستيفاء هو أخذ الحقّ بتمامه وكماله ، وما تشتمل عليه الآية - من الأخذ والإمساك والإرسال - ظاهر في المغايرة بين النفس والبدن .
ومن الآيات قوله تعالى‏ : (وقالُوا أإذا ضَلَلْنا في الأرْضِ أإنّا لَفِي خَلْقٍ جَديدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرونَ * قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى‏ رَبِّكُم تُرْجَعُونَ)2 ، ذكر سبحانه شبهة من شبهات الكفّار المنكرين للمعاد ، وهو أنّا بعد الموت وانحلال تركيب أبداننا تتفرّق أعضاؤنا ، وتبدّد أجزاؤنا ، وتتبدّل صورنا فنضلّ في الأرض ، ويفقدنا حواسّ المدركين ، فكيف يمكن أن نقع ثانياً في خلق جديد ؟ وهذا استبعاد محض ، وقد لقّن تعالى‏ على‏ رسوله : الجواب عنه ، بقوله : (قُلْ

1.الزمر : ۴۲ .

2.السجدة : ۱۰ و ۱۱ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 226696
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي