95
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

يَسيرٌ)1 ؛ فإنّ الآية دعت إلى‏ ترك الأسى‏ والفرح بأنّ الذي أصابكم ما كان ليخطئكم وما أخطأكم ما كان ليصيبكم، لاستناد الحوادث إلى‏ قضاء مقضيّ وقدر مقدّر ، فالأسى والفرح لغوٌ لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن باللَّه الذي بيده أزمّة الاُمور ، كما يشير إليه قوله تعالى‏ : (ما أصابَ مِن مُصيبَةٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ ومَن يُؤمِنْ باللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)2 ؛ فهذا القسم من الآيات أيضاً نظير القسم السابق الذي يتسبّب فيه إلى‏ إصلاح الأخلاق بالغايات الشريفة الاُخرويّة ، وهي كمالات حقيقيّة غير ظنّيّة يتسبّب فيه إلى‏ إصلاح الأخلاق بالمبادئ السابقة الحقيقيّة ، من القدر والقضاء والتخلّق بأخلاق اللَّه والتذكّر بأسماء اللَّه الحسنى‏ وصفاته العليا ونحو ذلك .
فان قلت : التسبّب بمثل القضاء والقدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختياريّة ، وفي ذلك بطلان الأخلاق الفاضلة ، واختلال نظام هذه النشأة الطبيعيّة ، فإنّه لو جاز الاستناد في إصلاح صفة الصبر والثبات وترك الفرح والأسى‏ - كما استفيد من الآية السابقة - إلى‏ كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ ومقضيّة بقضاء محتوم ، أمكن الاستناد إلى‏ ذلك في ترك طلب الرزق ، وكسب كلّ كمال مطلوب ، والاتّقاء عن كلّ رذيلة خلقيّة وغير ذلك ، فيجوز حينئذٍ أن نقعد عن طلب الرزق والدفاع عن الحقّ ونحو ذلك بأنّ الذي سيقع منه مقضيّ مكتوب ، وكذا يجوز أن نترك السعي في كسب كلّ كمال وترك كلّ نقص بالاستناد إلى‏ حتم القضاء وحقيقة الكتاب ، وفي ذلك بطلان كلّ كمال .
قلت : قد ذكرنا في البحث عن القضاء ما يتّضح به الجواب عن هذا الإشكال ، فقد ذكرنا ثَمّ أنّ الأفعال الإنسانيّة من أجزاء علل الحوادث ، ومن المعلوم أنّ المعاليل والمسبَّبات

1.الحديد : ۲۲ .

2.التغابن : ۱۱ .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
94

العدالة راحة النفس عن الهمم المؤذية ، وهي الحياة بعد الموت ببقاء الاسم وحسن الذِّكر وجميل الثناء والمحبّة في القلوب .
وهذا هو المسلك المعهود الذي رتّب عليه علم الأخلاق ، والمأثور من بحث الأقدمين من يونان وغيرهم فيه .
ولم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بناؤه علَى انتخاب الممدوح عند عامّة الناس عن المذموم عندهم ، والأخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه ، نعم ربّما جرى عليه كلامه تعالى‏ فيما يرجع بالحقيقة إلى‏ ثواب اُخرويّ أو عقاب اُخرويّ كقوله تعالى : (وحَيْثُ ما كُنْتُم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لئلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُم حُجَّةٌ)1 ، دعا سبحانه إلَى العزم والثبات ، وعلّله بقوله : (لئلّا يَكونَ) وكقوله تعالى‏ : (ولا تَنازَعُوا فَتفْشَلوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِروا)2 ، دعا سبحانه إلَى الصبر وعلّله بأنّ تركه وإيجاد النزاع يوجب الفشل وذهاب الريح وجرأة العدوّ ، وقوله تعالى‏ : (ولَمَنْ صَبَرَ وغَفَرَ إنّ ذلكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمورِ)3 دعا إلَى الصبر والعفو ، وعلّله بالعزم والإعظام .
المسلك الثاني : الغايات الاُخرويّة ، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى‏ ، كقوله سبحانه : (إنّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ المُؤمِنينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوالَهُمْ بأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ)4 ، وقوله تعالى‏ : (إنّما يُوَفّى‏ الصّابِرونَ أجْرَهُمْ بغَيرِ حِسابٍ)5 ، وقوله تعالى‏ : (إنّ الظّالِمينَ لَهُمْ عَذابٌ أليمٌ)6، وقوله تعالى‏ : (اللَّهُ وَلِيُّ الّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظّلُماتِ إلَى النُّورِ والذِينَ كَفَروا أوْلياؤهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُماتِ)7 ، وأمثالها كثيرة علَى اختلاف فنونها .
ويلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات ، كقوله تعالى‏ : (ما أصابَ مِن مُصيبَةٍ في الأرْضِ ولا في أنْفُسِكُم إلّا في كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرَأها إنّ ذلكَ علَى اللَّهِ

1.البقرة : ۱۵۰ .

2.الأنفال : ۴۶ .

3.الشورى : ۴۳ .

4.التوبة : ۱۱۱ .

5.الزمر : ۱۰ .

6.إبراهيم : ۲۲ .

7.البقرة : ۲۵۷ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 227342
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي