97
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

نفس اختيار الإنسان مستند إلى‏ علل كثيرة خارجة عن اختيار الإنسان ، فالاختيار لا يكون بالاختيار .
فإذا عرفت ما ذكرنا - وهو حقيقة قرآنيّة يعطيها التعليم الإلهيّ كما مرّ - ثمّ تدبّرت في‏الآيات الشريفة التي في المورد ، وجدت أنّ القرآن يستند إلَى القضاء المحتوم والكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الأخلاق دون بعض .
فما كان من الأفعال أو الأحوال والملكات يوجب استنادُها إلَى القضاء والقدر إبطالَ حكم الاختيار فإنّ القرآن لا يستند إليه ، بل يدفعه كلّ الدفع ، كقوله تعالى‏ : (وإذا فَعَلوا فاحِشَةً قالوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أمَرَنا بِها قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأمُرُ بالفَحْشاءِ أتَقُولُونَ علَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)۱.
وما كان منها يوجب سلبُ استنادها إلى القضاء إثباتَ استقلال اختيار الإنسان في التأثير ، وكونه سبباً تامّاً غير محتاج في التأثير، ومستغنياً عن غيره ، فإنّه يثبت استناده إلَى القضاء ويهدي الإنسان إلى‏ مستقيم الصراط الذي لا يخطئ بسالكه ، حتّى‏ ينتفي عنه رذائل الصفات التي تتبعه ، كإسناد الحوادث إلَى القضاء كي لا يفرح الإنسان بما وجده جهلاً ، ولا يحزن بما فقده جهلاً ، كما في قوله تعالى‏ : (وآتُوهُمْ مِن مالِ اللَّهِ الّذِي آتاكُم)۲ ، فإنّه يدعو إلَى الجود بإسناد المال إلى‏ إيتاء اللَّه تعالى‏ ، وكما في قوله تعالى‏ : (ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنفِقونَ)۳ ، فإنّه يندب إلَى الإنفاق بالاستناد إلى‏ أنّه من رزق اللَّه تعالى‏ ، وكما في قوله تعالى‏ : (فلَعَلّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ على‏ آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنوا بِهذا الحَديثِ أسَفاً * إنّا جَعَلْنا ما علَى الأرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أيُّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً)۴، نهى‏ رسوله صلى اللَّه عليه وآله عن الحزن والغمّ استناداً إلى‏ أنّ كفرهم ليس غلبة منهم علَى اللَّه سبحانه ، بل ما علَى الأرض من شي‏ء

1.الأعراف : ۲۸ .

2.النور : ۳۳ .

3.البقرة : ۳ .

4.الكهف : ۶ و ۷ .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
96

يتوقّف وجودها على‏ وجود أسبابها وأجزاء أسبابها ، فقول القائل : إنّ الشبع إمّا مقضيّ الوجود وإمّا مقضيّ العدم ، وعلى‏ كلّ حال فلا تأثير للأكل ، غلط فاحش ؛ فإنّ الشبع فرض تحقّقه في الخارج لا يستقيم إلّا بعد فرض تحقّق الأكل الاختياريّ الذي هوأحد أجزاء علله ، فمن الخطاء أن يفرض الإنسان معلولاً من المعاليل ، ثمّ يحكم بإلغاء علله أو شي‏ء من أجزاء علله .
فغير جايز أن يبطل الإنسان حكم الاختيار الذي عليه مدار حياته الدنيويّة ، وإليه تنتسب سعادته وشقاؤه ، وهو أحد أجزاء علل الحوادث التي تلحق وجوده من أفعاله أو الأحوال والملكات الحاصلة من أفعاله ، غير أنّه كما لا يجوز له إخراج إرادته واختياره من زمرة العلل ، وإبطال حكمه في التأثير ، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون اختياره سبباً وحيداً وعلّة تامّة إليه تستند الحوادث ، من غير أن يشاركه شي‏ء آخر من أجزاء العالم والعلل الموجودة فيه التي في رأسها الإرادة الإلهيّة ؛ فإنّه يتفرّع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعُجب والكبر والبخل والفرح والأسى‏ والغمّ ... ونحو ذلك .
يقول الجاهل : أنا الذي فعلت كذا وتركت كذا، فيعجب بنفسه أو يستكبر على‏ غيره أو يبخل بماله ، وهو جاهل بأنّ بقيّة الأسباب الخارجة عن اختياره الناقص - وهي اُلوف واُلوف - لو لم يمهد له الأمر لم يسدّ اختياره شيئاً ، ولا أغنى‏ عن شي‏ء . يقول الجاهل : لو أنّي فعلت كذا لما تضرّرت بكذا ، أو لما فات عنّي كذا ، وهو جاهل بأنّ هذا الفوت أو الموت يستند عدمه - أعني الربح أو العافية ، أو الحياة - إلى‏ اُلوف واُلوف من العلل يكفي في انعدامها - أعني في تحقّق الفوت أو الموت - انعدام واحد منها ، وإن كان اختياره موجوداً . على‏ أنّ

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 227260
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي