99
ميزان الحکمه المجلّد التّاسع

الأشياء ذاتاً ووصفاً وفعلاً عنده عن درجة الاستقلال ، فهذا الإنسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه تعالى‏ ، ولا أن يخضع لشي‏ء ، أو يخاف أو يرجو شيئاً ، أو يلتذّ أو يبتهج بشي‏ء ، أو يركن إلى‏ شي‏ء ، أو يتوكّل على‏ شي‏ء ، أو يسلّم لشي‏ء ، أو يفوّض إلى‏ شي‏ء ، غير وجهه تعالى‏ . وبالجملة : لا يريد ولا يطلب شيئاً إلّا وجهه الحقّ الباقي بعد فناء كلّ شي‏ء ، ولا يعرض إعراضاً ولا يهرب إلّا عن الباطل الذي هو غيره الذي لا يرى‏ لوجوده وقعاً ولا يعبأ به قبال الحقّ الذي هو وجود باريه جلّ شأنه .
وكذلك قوله تعالى‏ : (اللَّهُ لا إلهَ إلّا هُوَ لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى‏)۱ ، وقوله : (ذلكُمُ اللَّه ربُّكُمْ لا إلهَ إلّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَي‏ءٍ)۲ ، وقوله : (الّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ)۳، وقوله : (وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ)۴ ، وقوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتونَ)۵ ، وقولهُ: (وقَضَى‏ رَبُّكَ ألّا تَعْبُدوا إلّا إيّاهُ)۶ ، وقولهُ : (أوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أ نّهُ على‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ)۷ وقولهُ : (ألا إنّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ)۸ ، وقولهُ : (وأنّ إلى‏ رَبِّكَ المُنْتَهى‏)۹ .
ومن هذا الباب الآيات التي نحن فيها وهي قوله تعالى‏ : (وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الّذينَ إذا أصابَتْهُم مُصيبَةٌ قالُوا إنّا للَّهِ‏ِ وإنّا إلَيهِ راجِعُونَ...)۱۰ إلى‏ آخرها ، فإنّ هذه الآيات وأمثالها مشتملة على‏ معارف خاصّة إلهيّة ذات نتائج خاصّة حقيقيّة لا تشابه تربيتها نوع التربية التي يقصدها حكيم أخلاقيّ في فنّه ، ولا نوع التربية التي سنّها الأنبياء في شرائعهم ؛ فإنّ المسلك الأوّل كما عرفت مبنيّ علَى العقائد العامّة الاجتماعيّة في‏الحسن والقبح ، والمسلك الثاني مبنيّ علَى العقائد العامّة الدينيّة في التكاليف العبوديّة ومجازاتها ، وهذا المسلك الثالث مبنيّ

1.طه : ۸ .

2.الأنعام : ۱۰۲ .

3.السجدة : ۷ .

4.طه : ۱۱۱ .

5.البقرة : ۱۱۶ .

6.الإسراء : ۲۳ .

7.فصّلت : ۵۳ .

8.فصّلت : ۵۴ .

9.النجم : ۴۲ .

10.البقرة : ۱۵۵ و ۱۵۶ .


ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
98

اُمور مجعولة عليها للابتلاء والامتحان ، إلى‏ غير ذلك .
وهذا المسلك - أعني الطريقة الثانية في إصلاح الأخلاق - طريقة الأنبياء ، ومنه شي‏ء كثير في القرآن ، وفيما ينقل إلينا من الكتب السماويّة .
وهاهنا مسلك ثالث مخصوص بالقرآن الكريم لا يوجد في شي‏ء ممّا نقل إلينا من الكتب السماويّة ، وتعاليم الأنبياء الماضين سلام اللَّه عليهم أجمعين ، ولا في المعارف المأثورة من الحكماء الإلهيّين ، وهو تربية الإنسان وصفاً وعلماً باستعمال علوم ومعارف لا يبقى‏ معها موضوع الرذائل ، وبعبارة اُخرى‏ : إزالة الأوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع .
وذلك كما أنّ كلّ فعل يراد به غير اللَّه سبحانه فالغاية المطلوبة منه إمّا عزّة في المطلوب يطمع فيها ، أو قوّة يخاف منها ويحذر عنها ، لكنّ اللَّه سبحانه يقول : (انّ العِزَّةَ للَّهِ‏ِ جَميعاً)۱ ، ويقول : (إنّ القُوَّةَ للَّهِ‏ِ جَميعاً)۲ . والتحقّق بهذا العلم الحقّ لا يبقي موضوعاً لرياء ، ولا سمعة ، ولا خوف من غير اللَّه، ولا رجاء لغيره ، ولا ركون إلى‏ غيره ، فهاتان القضيّتان إذا صارتا معلومتين للإنسان تغسلان كلّ ذميمة - وصفاً أو فعلاً - عن الإنسان وتحلّيان نفسه بحلية ما يقابلها من الصفات الكريمة الإلهيّة من التقوى‏ باللَّه ، والتعزّز باللَّه وغيرهما من مناعة وكبرياء واستغناء وهيبة إلهيّة ربّانيّة .
وأيضاً قد تكرّر في كلامه تعالى‏ أنّ المُلك للَّه ، وأنّ له مُلك السماوات والأرض ، وأنّ له ما في السماوات والأرض ، وقد مرّ بيانه مراراً ، وحقيقة هذا الملك - كما هو ظاهر - لا تبقي لشي‏ء من الموجودات استقلالاً دونه ، واستغناءً عنه بوجه من الوجوه ، فلا شي‏ء إلّا وهو سبحانه المالك لذاته ولكلّ ما لذاته، وإيمان الإنسان بهذا الملك وتحقّقه به يوجب سقوط جميع

1.يونس : ۶۵ .

2.البقرة : ۱۶۵ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
عدد المشاهدين : 227227
الصفحه من 643
طباعه  ارسل الي