النفس - الصفحه 22

وسائر الآيات الّتي ذكرناها حقيقة اُخرى‏ أوسع من ذلك ، وهي تجرّد النفس ؛ بمعنى‏ كونها أمراً وراء البدن وحكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسميّة ، لها نحوُ اتّحاد بالبدن تدبّرها بالشعور والإرادة وسائر الصفات الإدراكيّة . والتدبّر في الآيات السابقة الذكر يجلّي هذا المعنى‏ ؛ فإنّها تفيد أنّ الإنسان بشخصه ليس بالبدن ، لا يموت بموت البدن ، ولا يفنى‏ بفنائه وانحلال تركيبه وتبدّد أجزائه ، وأنّه يبقى‏ بعد فناء البدن في عيش هني‏ء دائم ونعيم مقيم ، أو في شقاء لازم وعذاب أليم ، وأنّ سعادته في هذه العيشة وشقاءه فيها مرتبطة بسنخ ملكاته وأعماله ، لا بالجهات الجسمانيّة والأحكام الاجتماعيّة .
فهذه معانٍ تعطيها هذه الآية الشريفة ، وواضح أنّها أحكام تغاير الأحكام الجسمانيّة ، وتتنافى والخواصّ المادّية الدنيويّة من جميع جهاتها ، فالنفس الإنسانيّة غير البدن .
وممّا يدلّ عليه من الآيات قوله تعالى‏ : (اللَّه يَتَوفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والّتي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها فَيُمْسِكُ الّتي قَضَى‏ علَيْها المَوْتَ ويُرْسِلُ الاُخْرى‏)1، والتَّوفّي والاستيفاء هو أخذ الحقّ بتمامه وكماله ، وما تشتمل عليه الآية - من الأخذ والإمساك والإرسال - ظاهر في المغايرة بين النفس والبدن .
ومن الآيات قوله تعالى‏ : (وقالُوا أإذا ضَلَلْنا في الأرْضِ أإنّا لَفِي خَلْقٍ جَديدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرونَ * قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى‏ رَبِّكُم تُرْجَعُونَ)2 ، ذكر سبحانه شبهة من شبهات الكفّار المنكرين للمعاد ، وهو أنّا بعد الموت وانحلال تركيب أبداننا تتفرّق أعضاؤنا ، وتبدّد أجزاؤنا ، وتتبدّل صورنا فنضلّ في الأرض ، ويفقدنا حواسّ المدركين ، فكيف يمكن أن نقع ثانياً في خلق جديد ؟ وهذا استبعاد محض ، وقد لقّن تعالى‏ على‏ رسوله : الجواب عنه ، بقوله : (قُلْ

1.الزمر : ۴۲ .

2.السجدة : ۱۰ و ۱۱ .

الصفحه من 42