هُديت وسُيّرت بما جُهّزت به من القوى والأعضاء نحو مطلوبها ؛ وهو غاية الوجود الإنسانيّ والكمال الأخير الذي يختصّ به هذا النوع .
ومن هنا يظهر معنى عطف قوله : (هَدى) على قوله : (أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) ب «ثُمّ» وأنّ المراد التأخّر الرتبيّ ، فإنّ سير الشيء وحركته بعد وجوده رتبة ، وهذا التأخّر في الموجودات الجسمانيّة تدريجيّ زمانيّ بنحو .
وظهر أيضاً أنّ المراد بالهداية الهداية العامّة الشاملة لكلّ شيء دون الهداية الخاصّة بالإنسان ، وذلك بتحليل الهداية الخاصّة وتعميمها بإلقاء الخصوصيّات ؛ فإنّ حقيقة هداية الإنسان بإراءته الطريق الموصل إلَى المطلوب ، والطريق رابطة القاصد بمطلوبه ، فكلّ شيء جهّز بما يربطه بشيء ويحرّكه نحوه فقد هدي إلى ذلك الشيء ، فكلّ شيء مهديّ نحو كماله بما جهّز به من تجهيز ، واللَّه سبحانه هوالهادي .
فنظام الفعل والانفعال في الأشياء - وإن شئت فقل : النظام الجزئيّ الخاصّ بكلّ شيء ، والنظام العامّ الجامع لجميع الأنظمة الجزئيّة من حيث ارتباط أجزائها وانتقال الأشياء من جزء منها إلى جزء - مصداق هدايته تعالى ، وذلك بعناية اُخرى مصداق لتدبيره . ومعلوم أنّ التدبير ينتهي إلَى الخلق بمعنى أنّ الذي ينتهي وينتسب إليه تدبير الأشياء هو الذي أوجد نفس الأشياء فكلّ وجود أو صفة وجود ينتهي إليه ويقوم به .
فقد تبيّن أنّ الكلام - أعني قوله : (الّذِي أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) - مشتمل علَى البرهان على كونه تعالى ربّ كلّ شيء لا ربّ غيره ؛ فإنّ خلقه الأشياء وإيجاده لها يستلزم ملكه لوجوداتها - لقيامها به - وملك تدبير أمرها .
وعند هذا يظهر : أنّ الكلام على نظمه الطبيعيّ ، والسياق جارٍ على مقتضَى المقام ؛ فإنّ المقام مقام الدعوة