التقوی - الصفحه 17

أمّا اللّيلُ فَصافُّونَ أقدامَهُم ، تالِينَ لأِجزاءِ القُرآنِ ، يُرَتِّلونَها تَرتيلاً ، يُحَزِّنونَ بهِ أنفُسَهُم ، ويَستَثيرونَ بهِ دَواءَ دائهِم ، فإذا مَرُّوا بآيَةٍ فيها تَشويقٌ رَكَنوا إلَيها طَمَعاً ، وتَطَلَّعَت نُفوسُهُم إلَيها شَوقاً ، وظَنُّوا أ نّها نُصْبَ أعيُنِهِم ، وإذا مَرُّوا بآيَةٍ فيها تَخويفٌ أصغَوا إلَيها مَسامِعَ قُلوبِهِم ، وظَنُّوا أنّ زَفيرَ جَهَنَّمَ وشَهيقَها في اُصولِ آذانِهِم، فَهُم حانُونَ على‏ أوساطِهِم‏۱، مُفتَرِشُونَ لِجِباهِهِم وأكُفِّهِم ورُكَبِهِم وأطرافِ أقدامِهِم ، يَطلُبونَ إلَى اللَّهِ تعالى‏ في فَكاكِ رِقابِهِم .
وأمّا النَّهارُ فحُلَماءُ عُلَماءُ ، أبرارٌ أتقياءُ ، قَد بَراهُمُ الخَوفُ بَرْيَ القِداحِ ، يَنظُرُ إلَيهِمُ النّاظِرُ فيَحسَبُهُم مَرضى‏ ، وما بِالقومِ مِن مَرَضٍ ، ويقولُ : قَد خُولِطوا ! ولَقَد خالَطَهُم أمرٌ عَظيمٌ ! لا يَرضَونَ مِن أعمالِهِمُ القَليلَ ، ولا يَستَكثِرونَ الكثيرَ ، فَهُم لأنفُسِهِم مُتَّهِمونَ، ومن أعمالِهِم مُشفِقونَ. إذا زُكِّيَ أحَدٌ مِنهُم خافَ مِمّا يقالُ لَهُ ، فيَقولُ : أنا أعلَمُ بِنَفسي مِن غَيري ، ورَبّي أعلَمُ بي مِنّي بِنَفسي ! اللّهُمّ لا تُؤاخِذْني بِما يَقولونَ ، واجعَلْني أفضَلَ مِمّا يَظُنُّونَ ، واغفِرْ لي ما لا يَعلَمونَ .
فمِن عَلامَةِ أحَدِهِم أ نَّكَ تَرى‏ لَهُ قُوَّةً في دِينٍ ، وحَزماً في لِينٍ ، وإيماناً في يَقينٍ ، وحِرصاً في عِلمٍ ، وعِلماً في حِلمٍ ، وقَصداً في غِنى ، وخُشوعاً في عِبادَةٍ ، وتَجَمُّلاً في فاقَةٍ ، وصَبراً في شِدَّةٍ ، وطَلَباً في حَلالٍ ، ونَشاطاً في هُدىً ، وتَحَرُّجاً عَن طَمَعٍ . يَعمَلُ الأعمالَ الصّالِحَةَ وهُو على‏ وَجَلٍ ، يُمسي وَهَمُّهُ الشُّكرُ ، ويُصبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكرُ ، يَبِيتُ حَذِراً ، ويُصبِحُ فَرِحاً ؛ حَذِراً لِما حُذِّرَ مِن الغَفلَةِ ، وفَرِحاً بما أصابَ مِن الفَضلِ والرَّحمَةِ .
إن اِستَصعَبَت علَيهِ نَفسُهُ فيما تَكرَهُ لَم يُعْطِها سُؤلَها فيما تُحِبُّ . قُرَّةُ عَينِهِ فِيما لا يَزولُ ، وزَهادَتُهُ فِيما لا يَبقى‏ ، يَمزُجُ الحِلمَ بِالعِلمِ والقَولَ بِالعَمَلِ . تَراهُ قَريباً أمَلُهُ ، قَليلاً زَلَلُهُ ، خاشِعاً قَلبُهُ ، قانِعَةً نَفسُهُ ، مَنزوراً أكلُهُ ، سَهلاً

1.حَنَيَت ظهري وحَنَيْتُ العُوَد : عَطَفتُه (الصحاح : ۶/۲۳۲۱) .

الصفحه من 40