التقوی - الصفحه 28

في قلوبهم المحبّة الإلهيّة ؛ وذلك أنّهم يعرفون ربّهم بما عرّفهم به نفسه ، وقد سمّى‏ نفسه بأحسن الأسماء ووصف ذاته بكلّ صفة جميلة ، ومن خاصّة النفس الإنسانيّة أن تنجذب إلَى الجميل فكيف بِالجميل علَى الإطلاق ؟! وقال تعالى‏ : (ذلِكُمُ اللَّهُ ربُّكُمْ لا إلهَ إلّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فاعْبُدُوهُ)۱ ثمّ قال : (الّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ)۲ فأفاد أنّ الخلقة تدور مدار الحسن ، وأنّهما متلازمان متصادقان . ثمّ ذكر سبحانه في آيات كثيرة أنّ ما خلقه من شي‏ء آية تدلّ عليه وأنّ في السماوات والأرض لآيات لاُولي الألباب ، فليس في الوجود ما لا يدلّ عليه تعالى‏ ولا يحكي شيئاً من جماله وجلاله .
فالأشياء من جهة أنواع خلقها وحسنها تدلّ على جماله الذي لا يتناهى‏، ويحمده ويثني على‏ حسنه الذي لا يفنى ، ومن جهة ما فيها من أنواع النقص والحاجة تدلّ على‏ غناه المطلق وتسبّح وتنزّه ساحة القدس والكبرياء ، كما قال تعالى‏ : (وإنْ مِن شَيْ‏ءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) .۳
فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريق هداهم إليه ربّهم وعرّفها لهم ، وهو أنّها آيات له وعلامات لصفات جماله وجلاله ، وليس لها من النفسيّة والأصالة والاستقلال إلّا أنّها كمرائي تجلّي بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي ، وبفقرها وحاجتها ما أحاط بها من الغنَى المطلق ، وبذلّتها واستكانتها ما فوقها من العزّة والكبرياء . ولا يلبث الناظر إلَى الكون بهذه النظرة دون أن تنجذب نفسه إلى‏ ساحة العزّة والعظمة ، ويغشى‏ قلبه من المحبّة الإلهيّة ما ينسيه نفسه وكلّ شي‏ء ، ويمحو رسم الأهواء والأميال النفسانيّة عن باطنه ، ويبدّل فؤاده قلباً سليماً ليس فيه إلّا اللَّه عزّ اسمه ، قال تعالى‏ : (والّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبّاً للَّهِ‏ِ) .۴

1.الأنعام : ۱۰۲ .

2.السجدة : ۷ .

3.الإسراء : ۴۴ .

4.البقرة : ۱۶۵ .

الصفحه من 40