التقوی - الصفحه 33

وقوله تعالى‏ حكاية عن يوسف عليه السلام: (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أحَبَّ إلَيَّ مِمّا يَدْعُونَني إلَيْهِ وإنْ لا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلينَ) .1 وقد أوضحنا وجه دلالة الآية على‏ ذلك .
ويظهر من ذلك أوّلًا : أنّ هذا العلم يخالف سائر العلوم في أنّ أثره العمليّ وهو صَرف الإنسان عمّا لاينبغي إلى‏ ما ينبغي قطعيّ غير متخلّف دائماً ، بخلاف سائر العلوم فإنّ الصرف فيها أكثريّ غير دائم ، قال تعالى‏ : (وجَحَدوا بها واسْتَيْقَنَتْها أنفُسُهُمْ)2 ، وقال : (أفرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهَهُ هَواهُ وأضَلَّهُ اللَّهُ على‏ عِلْمٍ)3 ، وقال : (فمَا اخْتَلَفُوا إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُم) .4
ويدلّ على‏ ذلك أيضاً قوله تعالى‏ : (سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يَصِفُونَ إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصينَ) ، وذلك أنّ هؤلاء المخلَصين من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام قد بيّنوا لنا جمل المعارف المتعلّقة بأسمائه تعالى‏ وصفاته من طريق السمع ، وقد حصلنا العلم به من طريق البرهان أيضاً ، والآية مع ذلك تنزّهه تعالى‏ عمّا نصفه به دون ما يصفه به اُولئك المخلصون ، فليس إلّا أنّ العلم غير العلم وإن كان متعلّق العلمين واحداً من وجه .
وثانياً : أنّ هذا العلم أعني ملَكة العصمة لا يغيّر الطبيعة الإنسانيّة المختارة في أفعالها الإراديّة ولا يخرجها إلى‏ ساحة الإجبار والاضطرار ، كيف ؟ والعلم من مبادئ الاختيار ، ومجرّد قوّة العلم لايوجب إلّا قوّة الإرادة ، كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائعٍ ما سمّاً قاتلاً من حينه فإنّه يمتنع باختياره من شربه قطعاً ، وإنما يضطرّ الفاعل ويجبر إذا أخرج من يجبره أحد طرفَي الفعل والترك من الإمكان إلَى الامتناع .
ويشهد على‏ ذلك قوله : (واجْتَبَيْناهُمْ وهَدَيْناهُمْ إلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ * ذلكَ هُدَى‏ اللَّهِ يَهْدِي بهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ولَوْ أشْرَكوا

1.يوسف : ۳۳ .

2.النمل : ۱۴ .

3.الجاثية : ۲۳ .

4.الجاثية : ۱۷ .

الصفحه من 40