الأرض (تفصیلی) - الصفحه 62

مَندوحَةً ۱ عَن وَطَنِهِ إذا أحزَنَهُ أمرٌ يَضطَرُّهُ إلَى الاِنتِقالِ عَنهُ .
ثُمَّ فَكِّر في خَلقِ هذِهِ الأَرضِ عَلى ما هِيَ عَلَيهِ حينَ خُلِقَت راتِبَةً راكِنَةً ، فَيَكونُ مَوطِناً مُستَقَرّاً لِلأَشياءِ ؛ فَيَتَمَكَّنُ النّاسُ مِنَ السَّعيِ عَلَيها في مَآرِبِهِم ۲ ، وَالجُلوسِ عَلَيها لِراحَتِهِم ، وَالنَّومِ لِهُدُوئِهِم ، وَالإِتقانِ لِأَعمالِهِم . فَإِنَّها لَو كانَت رَجراجَةً ۳ مُتَكَفِّئَةً ، لَم يَكونوا يَستَطيعونَ أن يُتقِنُوا البِناءَ وَالتِّجارَةَ وَالصَّناعَةَ وما أشبَهَ ذلِكَ ، بَل كانوا لا يَتَهَنَّؤونَ بِالعَيشِ وَالأَرضُ تَرتَجُّ مِن تَحتِهِم! وَاعتَبِر ذلِكَ بِما يُصيبُ النّاسَ حينَ الزَّلازِلِ عَلى قِلَّةِ مَكثِها حَتّى يُصيروا إلى تَركِ مَنازِلِهم وَالهَرَبِ عَنها .
فَإِن قالَ قائِلٌ : فَلِمَ صارَت هذِهِ الأَرضُ تُزَلزَلُ؟ قيلَ لَهُ : إنَّ الزَّلزَلَةَ وما أشبَهَها مَوعِظَةٌ وتَرهيبٌ ؛ يُرَهَّبُ بِهَا النّاسُ لِيَرعَووا عَنِ المَعاصي ، وكَذلِكَ ما يَنزِلُ بِهِم مِنَ البَلاءِ في أبدانِهِم وأموالِهِم ، يَجري فِي التَّدبيرِ عَلى ما فيهِ صَلاحُهُم وَاستِقامَتُهُم ، ويُدَّخَرُ لَهُم ـ إن صَلَحوا ـ مِنَ الثَّوابِ وَالعِوَضِ فِي الآخِرَةِ ما لا يَعدِلُهُ شَيءٌ مِن اُمورِ الدُّنيا ، ورُبَّما عُجِّلَ ذلِكَ فِي الدُّنيا إذا كانَ ذلِكَ فِي الدُّنيا صَلاحاً لِلعامَّةِ وَالخاصَّةِ .
ثُمَّ إنَّ الأَرضَ في طِباعِهَا الَّذي طَبَعَهَا اللّهُ عَلَيهِ بارِدَةٌ يابِسَةٌ ، وكَذلِكَ الحِجارَةُ ، وإنَّمَا الفَرقُ بَينَها وبَينَ الحِجارَةِ فَضلُ يُبسٍ فِي الحِجارَةِ . أفَرَأَيتَ لَو أنَّ اليُبسَ أفرَطَ عَلَى الأَرضِ قَليلاً حَتّى تَكونَ حَجَراً صَلداً ، أكانَت تُنبِتُ هذَا النَّباتَ الَّذي بِهِ حَياةُ الحَيَوانِ ، وكانَ يُمكِنُ بِها حَرثٌ أو بِناءٌ؟! أفَلا تَرى كَيفَ نُقِصَت عَن يُبسِ الحِجارَةِ ، وجُعِلَت عَلى ما هِيَ عَلَيهِ مِنَ اللّينِ وَالرَّخاوَةِ ، وَليَتَهَيَّأ لِلاِعتِمادِ؟
ومِن تَدبيرِ الحَكيمِ ـ جَلَّ وعَلا ـ في خِلقَةِ الأَرضِ أنَّ مَهَبَّ الشِّمالِ أرفَعُ مِن

1.يقال : لكَ عنه مَندوحَةٌ؛ أي سَعَة وفُسحة (المصباح المنير : ص ۵۹۷ «ندح»).

2.الأَرَبُ والإربَةُ والمَأربَةُ : الحاجة ، والجمع : المَآرِب (المصباح المنير : ص ۱۱ «أرب») .

3.الرَّجْرَجَة: الاضطراب. وتَرَجْرَج الشيء: إذا جاء وذهب (الصحاح : ج ۱ ص ۳۱۷ «رجرج»).

الصفحه من 66