الأسوة (تفصیلی) - الصفحه 32

مِن ثَمَنِها .
وإن شِئتَ قُلتُ في عيسىَ بنِ مَريَمَ عليه السلام ، فَلَقَد كانَ يَتَوَسَّدُ الحَجَرَ ، ويَلبَسُ الخَشِنَ ، ويَأكُلُ الجَشِبَ ۱ . وكانَ إدامُهُ الجوعَ ، وسِراجُهُ بِاللَّيلِ القَمَرَ ، وظِلالُهُ فِي الشِّتاءِ مَشارِقَ الأَرضِ ومَغارِبَها ، وفاكِهَتُهُ ورَيحانُهُ ما تُنبِتُ الأَرضُ لِلبَهائِمِ . ولَم تَكُن لَهُ زَوجَةٌ تَفتِنُهُ ، ولا وَلَدٌ يَحزُنُهُ ، ولا مالٌ يَلفِتُهُ ، ولا طَمَعٌ يُذِلُّهُ . دابَّتُهُ رِجلاهُ ، وخادِمُهُ يَداهُ!
فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطيَبِ الأَطهَرِ صلى الله عليه و آله ، فَإِنَّ فيهِ اُسوَةً لِمَن تَأَسّى ، وعَزاءً لِمَن تَعَزّى ، وأحَبُّ العِبادِ إلَى اللّهِ المُتَأَسّي بِنَبِيِّهِ ، وَالمُقتَصُّ لِأَثَرِهِ . قَضَمَ الدُّنيا قَضما ۲ ، ولَم يُعِرها طَرفا . أهضَمُ أهلِ الدُّنيا كَشحا ۳ ، وأخمَصُهُم مِنَ الدُّنيا بَطنا . عُرِضَت عَلَيهِ الدُّنيا فَأَبى أن يَقبَلَها ، وعَلِمَ أنَّ اللّهَ سُبحانَهُ أبغَضَ شَيئا فَأَبغَضَهُ ، وحَقَّرَ شَيئا فَحَقَّرَهُ ، وصَغَّرَ شَيئا فَصَغَّرَهُ . ولَو لَم يَكُن فينا إلَا حُبُّنا ما أبغَضَ اللّهُ ورَسولُهُ ، وتَعظيمُنا ما صَغَّرَ اللّهُ ورَسولُهُ ، لَكَفى بِهِ شِقاقا للّهِِ ، ومُحادَّةً ۴ عَن أمرِ اللّهِ .
ولَقَد كانَ صلى الله عليه و آله يَأكُلُ عَلَى الأَرضِ ، ويَجلِسُ جِلسَةَ العَبدِ ، ويَخصِفُ بِيَدِهِ نَعلَهُ ، ويَرقَعُ بِيَدِهِ ثَوبَهُ ، ويَركَبُ الحِمارَ العارِيَ ويُردِفُ خَلفَهُ ، ويَكونُ السِّترُ عَلى بابِ بَيتِهِ فَتَكونُ فيهِ التَّصاويرُ فَيَقولُ : يا فُلانَةُ ـ لِاءِحدى أزواجِهِ ـ غَيِّبيهِ عَنّي ؛ فَإِنّي إذا نَظَرتُ إلَيهِ ذَكَرتُ الدُّنيا وزَخارِفَها .

1.الجَشِب: هو الغليظ الخشن من الطعام. وقيل : غير المأدوم. وكلّ بشع الطعم جَشْب (النهاية : ج ۱ ص ۲۷۲ «جشب»).

2.قَضَم الدنيا : تناول منها قدْر الكفاف وما تدعو إليه الضرورة من خشِن العيشة ... وأصل القَضم : أكل الشيء اليابس بأطراف الأسنان (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ۹ ص ۲۳۳) .

3.الكَشْح : الخاصِرة . ورجُلٌ أهضَم بَيِّن الهَضم : إذا كان خميصا لقلّة الأكل (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ۹ ص ۲۳۴) .

4.المُحادَّة : المعاداة والمخالفة (لسان العرب : ج ۳ ص ۱۴۰ «حدد») .

الصفحه من 46