الأسوة (تفصیلی) - الصفحه 33

فَأَعرَضَ عَنِ الدُّنيا بِقَلبِهِ ، وأماتَ ذِكرَها مِن نَفسِهِ ، وأحَبَّ أن تَغيبَ زَينَتُها عَن عَينِهِ ، لِكَيلا يَتَّخِذَ مِنها رِياشا ۱ ، ولا يَعتَقِدُها قَرارا ، ولا يَرجو فيها مُقاما ، فَأَخرَجَها مِنَ النَّفس ، وأشخَصَها عَنِ القَلبِ ، وغَيَّبَها عَنِ البَصَرِ ، وكَذلِكَ مَن أبغَضَ شَيئا أبغَضَ أن يَنظُرَ إلَيهِ ، وأن يُذكَرَ عِندَهُ .
ولَقَد كانَ في رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ما يَدُلُّكَ عَلى مَساوِئِ الدُّنيا وعُيوبِها ؛ إذ جاعَ فيها مَعَ خاصَّتِهِ ۲ ، وزُوِيَت عَنهُ زَخارِفُها مَعَ عَظيمِ زُلفَتِهِ . فَليَنظُر ناظِرٌ بِعَقلِهِ : أكرَمَ اللّهُ مُحَمَّدا بِذلِكَ أم أهانَهُ؟ فَإِن قالَ : أهانَهُ ، فَقَد كَذَبَ ـ وَاللّهِ العَظيمِ ـ بِالإِفكِ العَظيمِ ، وإن قالَ : أكرَمَهُ ، فَليَعلَم أنَّ اللّهَ قَد أهانَ غَيرَهُ حَيثُ بَسَطَ الدُّنيا لَهُ ، وزَواها عَن أقرَبِ النّاسِ مِنهُ .
فَتَأَسّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ ، وَاقتَصَّ أثَرَهُ ، ووَلَجَ مَولِجَهُ ، وإلّا فَلا يَأمَنِ الهَلَكَةَ ، فَإِنَّ اللّهَ جَعَلَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله عَلَما لِلسّاعَةِ ، ومُبَشِّرا بِالجَنَّةِ ، ومُنذِرا بِالعُقوبَةِ . خَرَجَ مِنَ الدُّنيا خَميصا ، ووَرَدَ الآخِرَةَ سَليما . لَم يَضَع حَجَرا عَلى حَجَرٍ حَتّى مَضى لِسَبيلِهِ وأجابَ داعِيَ رَبِّهِ . فَما أعظَمَ مِنَّةَ اللّهِ عِندَنا حينَ أنعَمَ عَلَينا بِهِ سَلَفا نَتَّبِعُهُ ، وقائِدا نَطَأُ عَقِبَهُ .
وَاللّهِ لَقَد رَقَعتُ مِدرَعَتي ۳ هذِهِ حَتَّى استَحيَيتُ مِن راقِعِها . ولَقَد قالَ لي قائِلٌ : ألا تَنبِذُها عَنكَ ؟ فَقُلتُ : اُغرُب عَنّي ، فَعِندَ الصَّباحِ يَحمَدُ القَومُ السُّرى ۴ . ۵

1.الرِّيشُ والرِّياشُ بمعنىً؛ وهو اللباس الفاخِر . ويقال : المال والخِصْب والمعاش (الصحاح : ج ۳ ص ۱۰۰۸ «ريش») .

2.خاصّته: اسم فاعل في معنى المصدر ، أي مع خصوصيّته وتفضّله عند ربّه (تعليقة صبحي الصالح على نهج البلاغة) .

3.المِدْرَعَة : ثَوبٌ ، ولا يكون إلّا من صوف (القاموس المحيط : ج ۳ ص ۲۰ «درع») .

4.السُّرى : سَير عامَّة الليل (القاموس المحيط : ج ۴ ص ۳۴۱ «سرى») . وقولهم : «عندَ الصباح يحمَدُ القومُ السُّرى» هو مَثَلٌ لما يُنال بالمشقَّة ، ويوصَل إليه بالتَّعَب (جمهرة الأمثال : ج ۲ ص ۳۸ الرقم ۱۲۹۳) .

5.نهج البلاغة : الخطبة ۱۶۰ ، بحار الأنوار : ج ۱۶ ص ۲۸۴ ح ۱۳۶ .

الصفحه من 46