11
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج1

بالخلق الرفيع . وفي جوف الليل الأوّاب المتبتِّل ، أعبد المتبتِّلين ، وأكثر القلوب ولَهاً بربّه . وبإزاء خلق اللّه هو أرفق إنسان على هذه البسيطة بالإنسان ، يفيض بالعطوفة واللين . وهو الأصلب في ميدان إحقاق الحقّ في غير مداجاة ، المنافح عنه في غير هروب .
أمّا في البلاغة والتوفّر على بدائع الخطابة وضروب الحكمة وفنون الكلام ، فليس له نظير ؛ وهو فارس هذا الميدان ، والأمكن فيه من كلّ أحد . وللّه درّ الشاعر العلوي ، وهو يقول في ذلك :

كَم لَهُ شَمسٌ حِكمَةٌ تَتَمَنّى
غُرَّةُ الشَّمسِ أن تَكونَ سَماها

تُرى ، هل يمكن لإنسان أن يُشرِف على منعرجات التاريخ ، ولا تشدّه تلك القمّة الشاهقة في مضمار الكرامة والحريّة والإنسانيّة ، وهي تسمو على كلّ ما سواها !
وهل يسوغ لإنسان أن يمدّ بصره إلى صحراء الحياة ، ثمّ لا يرفرف قلبه صوب هذا المظهر المتألِّق بالحبّ والعبادة ، المملوء بالجهاد والمروءة ، أو لا يُبصر هذا المثال المترع بالصدق والإيثار ، وبالإيمان والجلال !
ثمّ هل يمكن لكاتب أن يخطّ صفحات بقلمه ، ولا يهوى فؤاده أن يعطّر بضاعته بعبير يتضوّع بذكر عليّ ، ويخلط كلماته بشذىً يفوح بنسائم حياته التي يغمرها التوثّب ، ويحيط بها الإقدام من كلّ حدب ، ويجلّلها الجهاد والإيثار من كلّ صوب !
في ظنّي أنّ جميع اُولئك الذين فكّروا وتأمّلوا ، ثمّ استذاقوا طعم هذه الظاهرة الوجوديّة المذهلة ، إنّما يخامرهم اعتقاد يفيد : وأنّى للقطرة الوحيدة التائهة أن تُثني على البحر ! وأنّى للذرّة العالقة أن تنشد المديح بالشمس !
وأمّا كاتب هذه السطور !
فلم يكن يدُر بخلده قطّ أن يخطّ يوماً كلاماً جديراً في وصف تلك الشمس الساطعة ، كما لم يخطر بباله أبداً أن يكون له حظّ في حمل قبضة من قبس كتلة


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج1
10

لا نظير لها ، ثمّ عساها أن تؤلّف كلاماً يرتقي إلى مدى هذا الإنسان الإلهي ، ويكون جديراً به .
أمّا اُولئك الذين سلّحتهم بصيرتهم بفكر نافذ عن الإمام ، وأدركوا ـ إلى حدّ ما ـ أبعاده الوجوديّة ؛ فما لبثوا أن اضطرموا بمحنة العجز وقد لاذوا بالصمت ، ثمّ ما برحوا يجهرون أنّ هذا الصمت لم يكن إباءً عن إظهار فضائل الإمام بقدر ما كان ينمّ عمّا اعتورهم من عجز ، وهو إلى ذلك ينبئ عن حيرة استحوذت عليهم وهم لا يدرون كيف يصبّون كلّ هذه الفضائل العَليّة في حدود الكلمات ، وكيف يعبّرون عن معانيها البليغة من خلال الألفاظ !
أجل ، لم يكن قلّة اُولئك الذين اُشربوا في أعماق نفوسهم هذا المعنى الرفيع

وتَرَكتُ مَدحي لِلوَصِيِّ تَعَمُّداً
إذ كانَ نورا مُستَطيلاً شامِلاً

وإذَا استَطالَ الشَّيءُ قامَ بِنَفسِهِ
وصِفاتُ ضَوءِ الشَّمسِ تَذهَبُ باطِلاً

مَنْ يريد أن يتحدّث عن جلال عليّ وفضائله يستبدّ به العجز ، وتطوّقه الحيرة ؛ فلا يدري ما يقول !
هي محنة كبيرة لا تستثني أحداً ؛ أن ينطق الإنسان بكلام يرتفع إلى مستوى هذه «الظاهرة الوجوديّة المذهلة» ؛ وهو عجز كبير مدهش يعتري الجميع مهما كانت القابليّة وبلغ الاستعداد .
ولا ريب أنّ أبا إسحاق النظّام كان قد لبث يفكِّر طويلاً ، وطوى نفسه على تأمّلٍ عميق مترامي الأطراف في أبعاد هذه الشخصيّة ومكوّناتها ، قبل أن يقول : «عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام مِحنَةٌ عَلَى المُتَكَلِّمِ ؛ إن وَفّاهُ حَقَّهُ غَلا ، وإن بَخَسَهُ حَقَّهُ أساءَ !» .
عليٌّ عليه السلام في سوح القتال اللاحبة هو الأكثر جهاداً ، والأمضى عزماً ، والأشدّ توثّباً . وهو في مضمار الحياة الوجهُ المفعم بالاُلفة ؛ حيث لا يرتقي إليه إنسان

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج1
    المساعدون :
    الطباطبائي، السيد محمد كاظم؛ الطباطبائي نجاد، السيد محمود
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الثانية
عدد المشاهدين : 232793
الصفحه من 664
طباعه  ارسل الي