333
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج2

ولا يَعُون طبيعة عصر الرسالة والسيرة النبويّة، ولا يعرفون عليّا عليه السلام ومنزلته الرفيعة في الدين ودوره وشأنه العظيمين معرفةً صحيحةً.
فما مرّ على الدين خلال ربع قرن، وما ابتُدع من تفسيرات وتأويلات للنصوص الدينيّة، وما ظهر من تغييرات في الأحكام، خاصّة في عهد الخليفة الثالث، كلّ ذلك جعل مبادئ الدين ومقاييسه الصحيحة وأحكامه السديدةَ غريبةً على النّاس ، وهو الَّذي سوّغ للاُمّة ثورتها على عثمان ؛ فقد كان الثوّار يقولون في عثمان: «أحدَثَ الأَحداثَ ، وخالَفَ حُكمَ الكِتابِ» ۱ . وحيث كان يُشتكى من مقتله وسرّ الثورة عليه، يقولون: لأحداثه ۲ .
هذه كلّها رسمت صورةً في الأذهان وأجرت على الألسن صعوبة العمل على أساس الكتاب والسنّة بعيدا عن المجاملات والمداهنات. وكان الإمام عليه السلام يعلم علم اليقين أنّ إرجاع المياه إلى مجاريها يُثير عليه الفتن، وأنّ تطبيق الحقّ يُنهض أصحاب الباطل المعاندين للحقّ. من هنا كان عليه السلام يرفض البيعة ، ويؤكّد رفضه ؛ كي تتمّ الحجّة على المخالفين في المستقبل. وفي إحدى المناسبات قال عليه السلام :
«دَعوني وَالتَمِسوا غَيري ؛ فَإِنّا مُستَقِبلونَ أمرا لَهُ وجوهٌ وأَلوانٌ ، لا تَقومُ لَهُ القُلوبُ ، ولا تَثبُتُ عَلَيهِ العُقولُ . وإنَّ الآفاقَ قَد أغامَت ، وَالمَحَجَّةَ قَد تَنَكَّرَت . وَاعلَموا أنّي إن أجَبتُكُم رَكِبتُ بِكُم ما أعلَمُ ، ولَم اُصغِ إلى قَولِ القائِلِ ، وعَتبِ العاتِبِ ، وإن تَرَكتُموني فَأَنَا كَأَحَدِكُم ، ولَعَلّيٌ أسمَعُكُم وأطوَعُكُمِ لِمَن وَلَّيتُموهُ أمرَكُم ، وأنَا لَكُم وَزيرا خَيرٌ لَكُم مِنّي أميرا» ۳ .

1.تاريخ الطبري : ج۵ ص۴۳ .

2.وقعة صفّين : ص۳۱۹ .

3.نهج البلاغة : الخطبة ۹۲ ، المناقب لابن شهر آشوب : ج۲ ص۱۱۰ .


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج2
332

كلّما اقتضى المقام منه ذلك، وكان يصرخ من وحي الحرقة والألم ومن أعماق قلبه متأوّها لاستلاب حقّه، وزحزحة الحقّ عن مكانه... ها هو الآن يرفض البيعة ، وقد انثال عليه النّاس انثيالاً عجيبا مدهشا ، مقبلين عليه بقلوبهم وأرواحهم وبكلّ وجودهم، راضين به خليفةً لهم، مؤكّدين تصدّيه لحكومتهم في انتخابٍ حرٍّ مباشرٍ !فما له يكره ذلك ، ويرغب عن قبول هذه المهمّة؛ معلنا ذلك بصراحة؟!ولماذا وقف الإمام عليه السلام هذا الموقف؟
هل رغب عنها حقّا لنفسه ورجّح لها شخصا آخر أم أنّه أراد بموقفه هذا أن يعبّر مثلاً عن شيءٍ من المجاملة السياسيّة ـ ومثله لا يجامل ـ من أجل أن يسترعي انتباه النّاس أكثر فأكثر ، أو كان لموقفه الثُّنائي هذا مسوِّغ أو مسوِّغات اُخرى لا نعرفها؟!
والواقع أنّ معرفة ـ ولو يسيرة ـ بسيرته واُسلوبه وبصيرته ونهجه عليه السلام لا تدَع مجالاً للشكّ في أنّه كان بعيدا عن المجاملات السياسيّة، نافرا من نفس الحكومة بما هي حكومة. فهو لم يكن طالبَ حكم وتسلّط على النّاس ؛ إذ الخلافة عنده أداة لإحقاق الحقّ، وبسط العدل، وإقامة القسط، فهل كانت الظروف السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة آنذاك مهيّأة لتحقيق الأهداف المذكورة؟
كلّا، إنّ مثل هذه الظروف لم تكن مهيّأة؛ فالتقلّبات السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة، والتغيّرات الروحيّة والفكريّة الَّتي حدثت بعد خمس وعشرين سنةً قد استتبعت تغيّر الصحابة ورفاق الدرب أيضا بأفكارٍ مغايرة، ومعايير مباينة، ومقاييس اُخرى للحياة...
إنّ الجيل الجديد ـ والَّذين يقفون على رأس المواقع السياسيّة في هذه الفترة المتأخّرة ـ إنّما يعيشون في ظروف يجهلون فيها معايير الدين وموازينه الراسخة،

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج2
    المساعدون :
    الطباطبائي، السيد محمد كاظم؛ الطباطبائي نجاد، السيد محمود
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الثانية
عدد المشاهدين : 233596
الصفحه من 600
طباعه  ارسل الي