577
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج3

نقطة البداية في الانحراف

إنّ عددا من المسلمين في عصر صدر الإسلام لم يتلقّ تحذير النبيّ صلى الله عليه و آله من «التعمّق» بكثيرٍ من الجِدّية ؛ لأسباب سنعرضها عند الحديث عن جذور «التعمّق» ؛ فهؤلاء قد تجاوزوا السنّة النبويّة ، وأفرطوا في نزعاتهم حتى وقحُوا في بعض المرّات واجترؤوا يؤاخذون النبيّ صلى الله عليه و آله إذ كان صلى الله عليه و آله في أحد الأيّام مشغولاً بتوزيع الغنائم ، وقسمتها بمراعاة مصالح معيّنة ، فهبّ أحد هؤلاء «المتقدّسين» ، وقد سوّلت له نفسه أنّه أعدل من رسول اللّه صلى الله عليه و آله في القسمة بزعمه ، وطلب منه أن يعدل في التوزيع ! وطعن في تقسيمه القائم على التعاليم القرآنيّة ، وكان أثر السجود بائنا على جبهته ، ورأسه محلوق على طريقة «المتقدّسين» يومئذٍ ورفع عقيرته بغلظة وفظاظة قائلاً : «يا مُحَمَّدٌ ، وَاللّهِ ما تَعدِلُ !» فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله مُغضبا :
وَيحَكَ ! فَمَن يَعدِلُ إذا لَم أعدِل ؟ !
وَهَمَّ الصحابةُ بقتله لموقفه الوقِح هذا ، بَيْد أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله منَعهم ، وحكى لهم صورةً عن مستقبله ، وأنبأهم بأنّه ورفقاءه بعيدون عن الحقّ من منطلق «التعمّق» وقال :
«سَيَكونَ لَهُ شيعَةٌ يَتَعَمَّقونَ فِي الدّينِ حَتّى يَخرُجوا مِنهُ» . ۱
وقال في خبر آخر : «إنَّهُ يَخرُجُ هذا في أمثالِهِ وفي أشباهِهِ وفى ضُرَبائِهِ يَأتيهِمُ الشَّيطانُ مِن قِبَلِ دينِهِم ، يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، لا يَتَعَلَّقونَ مِن الإِسلامِ بِشَيءٍ» . ۲
والعجب أنّ هؤلاء قد تقمّصوا الزهد ، وعليهم سيماء العابدين أو هيئة الزاهدين ، بَيْد أنّهم ـ من منظار رسول اللّه صلى الله عليه و آله ـ من الدين خارجون ، وعن الحقّ والحقيقة بعيدون ، وهم الذين كانوا يسمّون أنفسهم «القُرّاء» أيضا ، في حين أبان النبيّ صلى الله عليه و آله هذه الصفة وجلّى طبيعتها أيضا ، فقد قال صلى الله عليه و آله : «يَقرَؤونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ حُلوقَهُم أو

1.مسند ابن حنبل : ج۲ ص۶۸۱ ح۷۰۵۹ ، كنزالعمّال : ج۱۱ ص۲۰۰ ح۳۱۲۲۲ .

2.كنزالعمّال : ج۱۱ ص۳۰۶ ح۳۱۵۸۷ .


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج3
576

ولذا قال في حقّهم : «إنَّ أقواما يَتَعَمَّقونَ فِي الدّينِ يَمرُقونَ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» ۱ .
وقال مشيرا إلى علامات هؤلاء : «إنَّ فيكُم قَوما يَعبُدونَ ويَدأَبونَ يَعني يُعجِبونَ النّاسَ وتُعجِبُهُم أنفُسُهُم ، يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» .
فالتعمّق هو التطرّف والإفراط ، وإذا ما جُعل ميزانا لأفعال الآخرين فلا يُنتج إلّا الحكم الجائر ؛ فيرى الحقّ دوما في جانبه ، وليس للآخرين حظٌّ منه ، وهذا النوع من الرؤى هو الذي يسبّب الفرقة ، ويستتبع الزيغ ويوجِد الشقاق ، وبالتالي فيصبح دعامة للكفر ، وحسبنا في المقام كلام أمير المؤمنين عليه السلام في بيان هذه الحقيقة ، وأنّ التعمّق أحد اُسس الكفر ، إذ يقول :
«وَالكُفرُ عَلى أربَعِ دَعائِمَ : عَلَى التَّعَمُّقِ ، وَالتَّنازُعِ ، وَالزَّيغِ ، وَالشِّقاقِ ؛ فَمَن تَعَمَّقَ لم يُنِب إلَى الحَقِّ» ۲ .
ومثل هؤلاء المتعمّقين بتماديهم في ظنونهم وأوهامهم ، وإغراقهم في أفكارهم ، ومن ثمّ أساليبهم المفرطة ، لا يجدون مجالاً للإنابة إلى الحقّ ، ومن هنا لا ينقادون للإسلام ، وهل الإسلام إلّا التسليم للحقّ ، والإقرار به ، والخضوع له بعد فهمه ؟
والمؤسف أنّ مشكلة الخوارج الكبرى قد تمثّلت في توجّهاتهم المتطرّفة المفرطة اللامتناهية ، لذلك آلَ أمرهم إلى حكمهم بالكفر على كلّ من لا يرى رأيهم ولا يعمل عملهم !

1.راجع : ص۶۰۴ ح۲۶۲۵ .

2.نهج البلاغة : الحكمة ۳۱ ، الكافي : ج۲ ص۳۹۲ ح۱ عن سليم بن قيس ، الخصال : ص۲۳۲ ح۷۴ عن الأصبغ بن نباتة ، تحف العقول : ص ۱۶۶ كلّها نحوه ، روضة الواعظين : ص۵۳ وفيه «ينسب» بدل «ينب» .

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج3
    المساعدون :
    الطباطبائي، السيد محمد كاظم؛ الطباطبائي نجاد، السيد محمود
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الثانية
عدد المشاهدين : 161909
الصفحه من 670
طباعه  ارسل الي