275
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج5

عَن مَلاذِّ الدُّنيا ، وأكثَرَهُم وَعظا وتَذكيرا بِأَيّامِ اللّهِ ومَثُلاتِهِ ۱ ، وأشَدَّهُمُ اجتِهادا فِي العِبادَةِ وآدابا لِنَفسِهِ فِي المُعامَلَةِ .
وكانَ مَعَ ذلِكَ ألطَفَ العالَمِ أخلاقا ، وأسفَرَهُم وَجها ، وأكثَرَهُم بِشرا ، وأوفاهُم هَشاشَةً ، وأبعَدَهُم عَنِ انقِباضٍ موحِشٍ ، أو خُلُقٍ نافِرٍ ، أو تَجَهُّمٍ مُباعِدٍ ، أو غِلظَةٍ وفَظاظَةٍ تَنفِرُ مَعَهُما نَفسٌ ، أو يَتَكَدَّرُ مَعَهُما قَلبٌ . حَتّى عيبَ بِالدُّعابَةِ ، ولَمّا لَم يَجِدوا فيهِ مَغمَزا ولا مَطعَنا تَعَلَّقوا بِها ، وَاعتَمَدوا فِي التَّنفيرِ عَنهُ عَلَيها «وتِلكَ شَكاةٌ ظاهِرٌ عَنكَ عارُها» . وهذا مِن عَجائِبِهِ وغَرائِبِهِ اللَّطيفَةِ .
ومِنها : أنَّ الغالِبَ عَلى شُرَفاءِ النّاسِ ومَن هُوَ مِن أهلِ بَيتِ السِّيادَةِ وَالرِّياسَةِ أن يَكونَ ذا كِبرٍ وتيهٍ وتَعَظُّمٍ وتَغَطرُسٍ ، خُصوصا إذا اُضيفَ إلى شَرَفِهِ مِن جَهَةِ النَّسَبِ شَرَفُهُ مِن جِهَاتٍ اُخرى ، وكانَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام في مُصاصِ ۲ الشَّرَفِ ومَعدِنِهِ ومَعانيهِ ، لا يَشُكُّ عَدُوٌّ ولا صِدّيقٌ أنَّهُ أشرَفُ خَلقِ اللّهِ نَسَبا بَعدَ ابنِ عَمِّهِ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ .
وقَد حَصَلَ لَهُ مِنَ الشَّرَفِ غَيرَ شَرَفِ النَّسَبِ جِهاتٌ كَثيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ ، قَد ذَكَرنا بَعضَها ، ومَعَ ذلِكَ فَكانَ أشَدَّ النّاسِ تَواضُعا لِصَغيرٍ وكَبيرٍ ، وأليَنَهُم عَريكَةً ، وأسمَحَهُم خُلُقا ، وأبعَدَهُم عَنِ الكِبرِ ، وأعرَفَهُم بِحَقٍّ ، وكانَت حالُهُ هذِهِ في كِلا زَمانَيهِ : زَمانِ خِلافَتِهِ ، وَالزَّمانِ الَّذي قَبلَهُ ، لَم تُغَيِّرهُ الإِمرَةُ ، ولا أحالَت خُلُقَهُ الرِّياسَةُ ، وكَيفَ تُحيلُ الرِّياسَةُ خُلُقَهُ وما زالَ رَئيسا ! وكَيفَ تُغَيِّرُ الإِمرَةُ سَجِيَّتَهُ وما بَرِحَ أميرا ! لَم يَستَفِد بِالخِلافَةِ شَرَفا ، ولَا اكتَسَبَ بِها زينَةً !
بَل هُوَ كَما قالَ أبو عَبدِ اللّهِ أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ ، ذَكَرَ ذلِكَ الشَّيخُ أبُو الفَرَج

1.المَثُلات : الأشباه والأمثال ممّا يعتبر به (مجمع البحرين : ج۳ ص۱۶۷۱) .

2.المُصاص : خالص كلّ شيء (لسان العرب : ج۷ ص۹۱) .


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج5
274

بِالرِّقابِ مُلكُهُ ، لَم يَعتَرِضهُ الشَّكُّ في أنَّهُ كَلامُ مَن لا حَظَّ لَهُ في غَيرِ الزَّهادَةِ ، ولا شُغلَ لَهُ بِغَيرِ العِبادَةِ ، قَد قَبَعَ في كِسرِ بَيتٍ ، أوِ انقَطَعَ إلى سَفحِ جَبَلٍ ، ولا يَسمَعُ إلّا حِسَّهُ ، ولَا يَرى إلّا نَفَسَهُ .
ولا يَكادُ يوقِنُ بِأَنَّهُ كَلامُ مَن يَنغَمِسُ فِي الحَربِ مُصلِتا سَيفَهُ ، فَيَقُطُّ الرِّقابَ ، ويُجَدِّلُ الأَبطالَ ، ويَعودُ بِهِ يَنطِفُ دَما ، ويَقطُرُ مُهَجا ، وهُوَ مَعَ تِلكَ الحالِ زاهِدُ الزُّهّادِ ، وبَدَلُ الأَبدالِ .
وهذِهِ مِن فَضائِلِهِ العَجيبَةِ ، وخَصائِصِهِ اللَّطيفَةِ ، الَّتي جَمَعَ بِها بَينَ الأَضدادِ ، وألَّفَ بَينَ الأَشتاتِ ۱ .

۴۲۵۳.شرح نهج البلاغة :كانَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ذا أخلاقٍ مُتَضادَّةٍ : فَمِنها ما قَد ذَكَرَهُ الرَّضِيُّ رحمه الله ، وهُوَ مَوضِعُ التَّعَجُّبِ ؛ لِأَنَّ الغالِبَ عَلى أهلِ الشَّجاعَةِ وَالإِقدامِ وَالمُغامَرَةِ وَالجُرأَةِ أن يَكونوا ذَوي قُلوبٍ قاسِيَةٍ ، وفَتكٍ وتَمَرُّدٍ وجَبَرِيَّةٍ ۲ ، وَالغالِبَ عَلى أهلِ الزُّهدِ ورَفضِ الدُّنيا وهِجرانِ مَلاذِّها وَالاِشتِغالِ بِمَواعِظِ النّاسِ ، وتَخويفِهِمُ المَعادَ ، وتَذكيرِهِمُ المَوتَ ، أن يَكونوا ذَوي رِقَّةٍ ولينٍ ، وضَعفِ قَلبٍ ، وخَوَرِ طَبعٍ ، وهاتانِ حالَتانِ مُتَضادَّتانِ ، وقَدِ اجتَمَعَتا لَهُ عليه السلام .
ومِنها : أنَّ الغالِبَ عَلى ذَوِي الشَّجاعَةِ وإراقَةِ الدِّماءِ أن يَكونوا ذَوي أخلاقٍ سَبُعِيَّةٍ ، وطِباعٍ حوشِيَّةٍ ، وغَرائِزَ وَحشِيَّةٍ ، وكَذلِكَ الغالِبَ عَلى أهلِ الزَّهادَةِ وأربابِ الوَعظِ وَالتَّذكيرِ ورَفضِ الدُّنيا أن يَكونوا ذَوِي انقِباضٍ فِي الأَخلاقِ ، وعَبوسٍ في الوُجوهِ ، ونِفارٍ مِنَ النّاسِ وَاستيحاشٍ .
وأميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام كانَ أشجَعَ النّاسِ وأعظَمَهُم إراقةً لِلدَّمِ ، وأزهَدَ النّاسِ وأبعَدَهُم

1.نهج البلاغة : المقدّمة ص۳۵ .

2.الجَبَريّة : الكِبْر (لسان العرب : ج۴ ص۱۱۳) .

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج5
    المساعدون :
    الطباطبائي، السيد محمد كاظم؛ الطباطبائي نجاد، السيد محمود
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الثانية
عدد المشاهدين : 328208
الصفحه من 520
طباعه  ارسل الي