بِالرِّقابِ مُلكُهُ ، لَم يَعتَرِضهُ الشَّكُّ في أنَّهُ كَلامُ مَن لا حَظَّ لَهُ في غَيرِ الزَّهادَةِ ، ولا شُغلَ لَهُ بِغَيرِ العِبادَةِ ، قَد قَبَعَ في كِسرِ بَيتٍ ، أوِ انقَطَعَ إلى سَفحِ جَبَلٍ ، ولا يَسمَعُ إلّا حِسَّهُ ، ولَا يَرى إلّا نَفَسَهُ .
ولا يَكادُ يوقِنُ بِأَنَّهُ كَلامُ مَن يَنغَمِسُ فِي الحَربِ مُصلِتا سَيفَهُ ، فَيَقُطُّ الرِّقابَ ، ويُجَدِّلُ الأَبطالَ ، ويَعودُ بِهِ يَنطِفُ دَما ، ويَقطُرُ مُهَجا ، وهُوَ مَعَ تِلكَ الحالِ زاهِدُ الزُّهّادِ ، وبَدَلُ الأَبدالِ .
وهذِهِ مِن فَضائِلِهِ العَجيبَةِ ، وخَصائِصِهِ اللَّطيفَةِ ، الَّتي جَمَعَ بِها بَينَ الأَضدادِ ، وألَّفَ بَينَ الأَشتاتِ ۱ .
۴۲۵۳.شرح نهج البلاغة :كانَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ذا أخلاقٍ مُتَضادَّةٍ : فَمِنها ما قَد ذَكَرَهُ الرَّضِيُّ رحمه الله ، وهُوَ مَوضِعُ التَّعَجُّبِ ؛ لِأَنَّ الغالِبَ عَلى أهلِ الشَّجاعَةِ وَالإِقدامِ وَالمُغامَرَةِ وَالجُرأَةِ أن يَكونوا ذَوي قُلوبٍ قاسِيَةٍ ، وفَتكٍ وتَمَرُّدٍ وجَبَرِيَّةٍ ۲ ، وَالغالِبَ عَلى أهلِ الزُّهدِ ورَفضِ الدُّنيا وهِجرانِ مَلاذِّها وَالاِشتِغالِ بِمَواعِظِ النّاسِ ، وتَخويفِهِمُ المَعادَ ، وتَذكيرِهِمُ المَوتَ ، أن يَكونوا ذَوي رِقَّةٍ ولينٍ ، وضَعفِ قَلبٍ ، وخَوَرِ طَبعٍ ، وهاتانِ حالَتانِ مُتَضادَّتانِ ، وقَدِ اجتَمَعَتا لَهُ عليه السلام .
ومِنها : أنَّ الغالِبَ عَلى ذَوِي الشَّجاعَةِ وإراقَةِ الدِّماءِ أن يَكونوا ذَوي أخلاقٍ سَبُعِيَّةٍ ، وطِباعٍ حوشِيَّةٍ ، وغَرائِزَ وَحشِيَّةٍ ، وكَذلِكَ الغالِبَ عَلى أهلِ الزَّهادَةِ وأربابِ الوَعظِ وَالتَّذكيرِ ورَفضِ الدُّنيا أن يَكونوا ذَوِي انقِباضٍ فِي الأَخلاقِ ، وعَبوسٍ في الوُجوهِ ، ونِفارٍ مِنَ النّاسِ وَاستيحاشٍ .
وأميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام كانَ أشجَعَ النّاسِ وأعظَمَهُم إراقةً لِلدَّمِ ، وأزهَدَ النّاسِ وأبعَدَهُم