487
منتخب حكم النبيّ الأعظم صلّى الله عليه و آله

ولكي يتّضح مدلول هذه الأحاديث ويستقرّ على معنىً محدّد، ينبغي الإجابة على الأسئلة التالية:
أ ـ ما هو المقصود من أنّ اللّه سبحانه هو المسعّر؟
ب ـ لماذا رفض النبيّ صلى الله عليه و آله اقتراح التسعير في حال القحط وأنكر ذلك بشدّة؟
ج ـ إذا ما كان نظام التسعير غير مشروعٍ في الإسلام، فلماذا أمر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بأن تنتظم الأسعار بالعدل ولا تكون مجحفة؟

المسعّر هو اللّه عز و جل

يمكن تقسيم السعر إلى قسمين، هما: السعر الطبيعي، والسعر غير الطبيعي. يتحرّك السعر الطبيعي في إطار الأوضاع والمكوّنات الواقعية للسلعة والسوق؛ مثل النوعية، والكمّية، وكلفة الإنتاج، والتوزيع، والحفظ، والطلب، وكلّ ما له دخل في تكوين القيمة الحقيقية للسلع. أمّا السعر غير الطبيعي فهو ناشئ عن أوضاع غير طبيعية يفرضها البائع؛ كالاحتكار، والتحالف والتواطؤ على سعرٍ معيّن ـ أو ما يُعرف بالتباني ـ وإيجاد السوق السوداء.
على ضوء هذا التصنيف، يعدّ السعر الإلهي هو السعر الطبيعي نفسه، ويظهر أنّ الأحاديث التي تنسب السعر إلى اللّه سبحانه تتحدّث عن وجود سعر لكلّ سلعة ينبثق على أساس الشروط الواقعية لوجود تلك السلعة وإنتاجها وتبعا للحالة الطبيعية للسوق؛ فما ينتج من حاصل كلفة السلعة والوضع الطبيعي للسوق يمثّل السعر الطبيعي الذي تذكر الأحاديث أنّه من عند اللّه سبحانه، وهو السعر الذي تستقرّ عليه السلعة في السوق إذا لم تتدخّل العوامل غير الطبيعية.

معارضة النبيّ صلى الله عليه و آله للتسعير

يُلقي التنويع السعري ـ المشار إليه آنفا ـ ضوءا على موقف الدولة من التسعير، فإذا كان التسعير الحكومي بمعنى خفض السعر الطبيعي للسلع، فهو في الحقيقة ظلم للمنتج، وإضرار بحركة الإنتاج ذاتها.
ولا ريب أنّ خفض الإنتاج يستتبع التخلّف الاقتصادي، ومن ثمّ لا يحقّ للدولة أن تخفض أسعار السلع تحت مستوى السعر الطبيعي ـ الموائم لكلفة الإنتاج والوضع الطبيعي للسوق ـ حتّى في أوضاع الأزمة وفي أوقات شحّة السلع، بل تبرز وظيفتها في مواجهة العوامل غير الطبيعية التي تزيد في الأسعار فوق قيمها الطبيعية.
على هذا الضوء، تتبيّن الحكمة من وراء معارضة النبيّ والإمام أمير المؤمنين ـ صلوات اللّه عليهما ـ للتسعير ومكافحتهما للاحتكار في الوقت ذاته؛ فمن جهة كان هذا الموقف يهدف إلى الحؤول دون الإجحاف بالمنتج وإلحاق الظلم به، ممّا يؤدّي إلى خفض مستوى الإنتاج، كما كان يسعى من جهة اُخرى للقضاء على العناصر التي تفضي إلى ارتفاع الأسعار من دون ضابطة.
على هذا يبدو أنّ الفقهاء الذين أفتوا بعدم جواز التسعير مطلقا كانوا ناظرين إلى هذا المعنى ۱ .

1.أفتى جمع من الفقهاء بعدم جواز التسعير، فمنهم الشيخ الطوسي في النهاية(ص ۳۷۴)، والمبسوط (ج۲ ص ۱۹۵)، وابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية: ص ۵۲۸)، والمحقّق في الشرائع (ج ۲ ص ۲۱) والمختصر (ص ۱۲۰)، والعلّامة في القواعد (ج۱ ص ۱۳۲)، بل نسب في مفتاح الكرامة (ج۴ ص ۱۰۹) هذا القول إلى الإجماع، وقال: «إجماعا وأخبارا متواترة كما في السرائر، وبلا خلاف كما في المبسوط، وعندنا كما في التذكرة». وقال السيد الخوئي بعد أن أفتى بمنع التسعير: «نعم، لو أجحف في القيمة بحيث كان ازديادها نحوا من الاحتكار يمنع الحاكم عن ذلك بحيث يبيع المالك بقيمة السوق أو أكثر منه بمقدار لا يمنع الناس عن الشراء، بأن تكون قيمة كل حقّةٍ من الحنطة مئة فلس ويبيع المحتكر بدينارين، فإنّه أيضا احتكار، كما لايخفى» (مصباح الفقاهة: ج۵ ص ۵۰۰) .


منتخب حكم النبيّ الأعظم صلّى الله عليه و آله
486

فَإِذا أرادَ اللّهُ تَعالى أن يُغلِيَهُ قَذَفَ الرَّغبَةَ في صُدورِ التُّجّارِ فَرَغِبوا فيهِ فَحَبَسوهُ ، وإذا أرادَ أن يُرخِصَهُ قَذَفَ الرَّهبَةَ في صُدورِ التُّجّارِ فَأَخرَجوهُ مِن أيديهِم . ۱

ب ـ اِمتِناعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله عَنِ التَّسعيرِ

۳۱۹۱.اُسد الغابة عن ابن نضلة :إنَّهُم قالوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه و آله في عامِ سَنَةٍ : سَعِّر لَنا يا رَسولَ اللّهِ ، فَقالَ : لا يَسأَلُنِي اللّهُ عَن سُنَّةٍ أحدَثتُها فيكُم لَم يَأمُرني بِها ، ولكِن سَلُوا اللّهَ مِن فَضلِهِ . ۲

۳۱۹۲.كتاب من لا يحضره الفقيه :قيلَ لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله : لَو سَعَّرتَ لَنا سِعرا فَإِنَّ الأَسعارَ تَزيدُ وتَنقُصُ! فَقالَ صلى الله عليه و آله : ما كُنتُ لِأَلقَى اللّهَ تَعالى بِبِدعَةٍ لَم يُحدِث إلَيَّ فيها شَيئا ، فَدَعوا عِبادَ اللّهِ يَأكُلُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ ، وإذَا استُنصِحتُم فَانصَحوا . ۳

ج ـ الأَمرُ بِإِقامَةِ الأَسعارِ العادِلَةِ

۳۱۹۳.الإمام عليّ عليه السلامـ مِن كِتابِهِ لِلأَشتَرِ النَّخَعِيِّ حينَ وَلّاهُ مِصرَ ـ: فَامنَع مِنَ الِاحتِكارِ ؛ فَإِنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله مَنَعَ مِنهُ . وَليَكُنِ البَيعُ بَيعا سَمحا : بِمَوازينِ عَدلٍ ، وأسعارٍ لا تُجحِفُ بِالفَريقَينِ . ۴

د ـ استِحبابُ البَيعِ بِسِعرٍ أرخَص صَبرا واحتِسابا

۳۱۹۴.المستدرك على الصحيحين عن اليسع بن المغيرة :مَرَّ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِرَجُلٍ بِالسُّوقِ يَبيعُ طَعاما بِسِعرٍ هُوَ أرخَصُ مِن سِعرِ السُّوقِ ، فَقالَ : تَبيعُ في سوقِنا بِسِعرٍ هُوَ أرخَصُ مِن سِعرِنا ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : صَبرا وَاحتِسابا؟ قالَ : نَعَم . قالَ : أبشِر ! فَإِنَّ الجالِبَ إلى سوقِنَا كَالمُجاهِدِ في سَبيلِ اللّهِ ، وَالمُحتَكِرَ في سوقِنا كَالمُلحِدِ في كِتابِ اللّهِ . ۵

نظرة في أحاديث التسعير

يمكن تقسيم أحاديث التسعير إلى عدّة مجموعات، كما مرّت الإشارة إلى ذلك في المتن. هذه المجموعات هي:
المجموعة الاُولى: تشمل الأحاديث التي تصرّح بأنّ اللّه سبحانه هو المسعّر، وهو الذي يحدّد سعر السلع .
المجموعة الثانية: تشمل أحاديث عن النبى صلى الله عليه و آله يؤيّد مضمونها أحاديث المجموعة الاُولى، ويرفض بشدّة اقتراح الناس التسعير، ويعدّ ذلك ظلما وبدعة.
المجموعة الثالثة: فيها حديث يومئ إلى استحباب البيع بسعرٍ أرخص من سعر السوق إذا كان ذلك لدافع إلهي .
تدلّ المجموعات الاُولى والثانية من أحاديث التسعير على عدم مشروعية تسعير السلع في النظام الإسلامي، وذلك خلافا لما أمر به الإمام في عهده إلى مالك الأشتر بضرورة أن تنتظم الأسعار في قيمة عادلة غير مجحفة.

1.تاريخ بغداد : ج ۸ ص ۵۰ الرقم ۴۱۰۹.

2.اُسد الغابة : ج ۶ ص ۳۴۳ الرقم ۶۴۰۱ .

3.كتاب من لا يحضره الفقيه : ج ۳ ص ۲۶۸ ح ۳۹۶۹ .

4.نهج البلاغة : الكتاب ۵۳ .

5.المستدرك على الصحيحين : ج ۲ ص ۱۵ ح ۲۱۶۷ .

  • نام منبع :
    منتخب حكم النبيّ الأعظم صلّى الله عليه و آله
    المساعدون :
    خوش نصیب، مرتضی؛ لجنة من المحققين
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    مشعر
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1430 ق / 1388 ش
    الطبعة :
    الاولى
عدد المشاهدين : 255470
الصفحه من 604
طباعه  ارسل الي