385
الدرّ المنظوم من كلام المعصوم

الدرّ المنظوم من كلام المعصوم
384

۱.عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن عبداللّه بن يحيى ، عن ابن مُسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :قلت له : « اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ » ؟ فقال : «أما واللّه ، ما دَعَوْهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دَعَوْهم ما أجابوهم، ولكن أحَلّوا لهم حراما، وحَرَّموا عليهم حلالاً، فَعَبَدُوهم من حيثُ لا يَشعرون».

باب التقليد

في حديث أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام : (قالَ : قلتُ له« اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ »۱فقال : أما وَاللّه ِ ، ما دَعَوْهم إلى عبادةِ أنفسهم ، ولو دَعَوْهم ما أجابوهم ، ولكن أحَلّوا لهم حَراماً وحَرَّموا عليهم حَلالاً ، فَعَبَدُوهم من حيثُ لا يَشعُرونَ) .
في النهاية : الأحبار هم العلماء ، جمع حِبر وحَبر بالفتح والكسر ، وكان يقال لابن عبّاس رحمه اللّه : الحبر والبحر ؛ لعلمه وسعته ؛ انتهى ۲ .
ومعنى الحديث ـ مع ما يتوقّف بيانه عليه واللّه أعلم ـ : أنّه لمّا كان المحرِّم والمحلِّل حقيقةً هو اللّه سبحانه ، وما حرّمه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام ونحوهم إنّما كان إسناده إليهم من حيث تبليغه وبيانه ، والذين اتّخذوا الأحبار والرهبان أرباباً إمّا أنّهم كانوا عالمين بما حرّمه اللّه وحلّله ، أو أنّه كان يجب عليهم الفحص عن حرام اللّه وحلاله ۳ وعمّن يعرفهما ، ولا يتجاوزهما على وجه لايسوغ له مع قدرتهم وقصروا ، فكان الأحبار والرهبان يحلّلون لهم الحرام ويحرّمون الحلال بمجرّد التشهّي والرأي ومراعاة الانقياد إليهم وما يخف عليهم
والميل إلى متابعتهم ، وكانوا يتبعونهم في ذلك كما في الحديث الآتي من قوله عليه السلام : «لكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فاتّبعوهم» .
وهذا تعريض بمن حذوا حذوهم من أهل الإسلام حذو النعل بالنعل ، ولو ادّعوا الإلهيّة لم يقبلوا منهم ، فإنّ هذا أمر ظاهر الفساد مكشوف ، فلو دعوهم إلى عبادتهم لم يقبلوا ؛ لظهور معنى المربوبيّة فيهم .
والتحريم والتحليل يتساهل فيهما بالنسبة إلى دعوى الإلهيّة وعبادتهم ، فجنحوا إلى ما يُعينهم الشيطان عليه وتميل نفوسهم إليه ، وهو تحريم ما حللّه اللّه وتحليل ما حرّمه لمصلحة المحرّم عليه والمحلّل له ، أو المحلّل أو المحرّم أو لهما ، فكان العامل بقولهم في ذلك متّخذاً لهم أرباباً من دون أن يتّخذ اللّه ربّاً من هذه الجهة ، فإنّه يكون تاركاً لحلال اللّه وحرامه ، وعاملاً بحلالهم وحرامهم ، وإن وافق بعضه حلال اللّه وحرامه ، فإنّ عملهم به من حيث تحريمهم وتحليلهم ولو خلطوا من الأمرين ، احتمل أن يكون المعنى ـ واللّه أعلم ـ أنّهم اتّخذوهم أرباباً من دون أن يتّخذوا اللّه وحده ربّاً ، وهو الذي يجب عليهم .
ولمّا كان المحلّل والمحرّم حقيقة لا يكون إلاّ ربّاً ، فهم من دون اللّه أربابهم ؛ لأنّ اللّه لا ربّ معه ، والمربوب عابدٌ والربّ معبود ، فقد عبدوهم من حيث لا يشعرون بأنّ هذا الترك أو التقصير يؤدّي إلى كونهم أرباباً لهم .
وكونهم عابدين لهم من هذه الجهة ، أو من حيث لا يشعرون بأنّهم عابدون لهم ، فقد أتوا مع شعورهم بما يصيّرهم عابدين .
إذا تقرّر هذا ، فاعلم : أنّ ما يتوهّم من الاستدلال بمثل هذا الحديث على بطلان مطلق الاجتهاد والتقليد وذمّهما ممّا لا يصلح ۴ للاستدلال ، فإنّ الحديث يدلّ
بظاهره على أنّ ما علم كونه حراماً يجعله حلالاً وبالعكس . وقد يدخل تحته من كان جاهلاً بالحرام والحلال ، فيحرّم ويحلّل من غير علم ، وكذا بالنسبة إلى المقلّد ، فإنّه إمّا أن يكون متابعاً له فيما يعلم أنّه حرّمه وهو حلال أو حلّله وهو حرام ، أو يكون جاهلاً يمكنه التفحّص والتمييز ليدخل تحت الذمّ كما يأتي في حديث العسكرى عليه السلا ۵ .
والفرض في هذا المقلّد أنّه لم يكن عالماً بما يعلمه المجتهد كلاًّ أو بعضاً فيقلّده فيه بأمرهم عليهم السلام كما في قوله : «اُنظروا إلى رجل قد روى حديثنا» الحديث ۶ ، وقوله عليه السلام : «اُنظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا ، فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضياً ، فتحاكموا إليه» ۷ ، وغيرهما كأمرهم عليهم السلام بالرجوع إلى آحاد في بعض النواحي ، وهو كثير ؛ وكحديث العسكري عليه السلام نقله في الاحتجاج فنقلته بتمامه ؛ لاشتماله على فوائد ، وصورته :
وبالإسناد الذي مضى ذكره عن أبي محمّد العسكري عليه السلام في قوله تعالى : « وَ مِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَـابَ إِلاَّ أَمَانِىَّ »۸
أنّ الاُمّي منسوب إلى اُمّه ، أي هو كما خرج من بطن اُمّه لا يقرأ ولا يكتب، «لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَـابَ» المنزّل من السماء ولا المكذّب به ولا يميزون بينهما « إِلاَّ أَمَانِىَّ » أي إلاّ أن يقرأ عليهم ويقال لهم : إنّ هذا كتاب اللّه وكلامه ، لا يعرفون إن قرئ من الكتاب خلاف مافيه . « وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ »۹ أي ما يقرأ عليهم رؤساوهم من تكذيب محمّد صلى الله عليه و آله في نبوّته وإمامة علي عليه السلام سيّد عترته وهم يقلّدونهم مع أنّه محرّم عليهم تقليدهم . « فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَـابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِى ثَمَنًا قَلِيلاً »۱۰ . قال عليه السلام : قال اللّه تعالى : هذا القوم من اليهود كتبوا صفة زعموا أنّها صفة محمّد صلى الله عليه و آله ، وهي خلاف صفته ، وقالوا للمستضعفين منهم : هذه صفة النبيّ المبعوث في آخر الزمان ، أنّه طويل ، عظيم البدن والبطن ۱۱ أصهب الشعر ۱۲ ومحمّد بخلافه ، وهو يجيء بعد هذا الزمان بخمسمائة سنة . وإنّما أرادوا بذلك لتبقى لهم على ضعفائهم رياستهم ، وتدوم لهم إصاباتهم ۱۳ ، ويكفّوا أنفسهم مؤونة خدمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وخدمة عليّ عليه السلام وأهل خاصّته ۱۴ ، فقال اللّه عزّ وجلّ : « فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ »۱۵ من هذه الصفات المحرّفات والمخالفات لصفة محمّد وعليّ عليهماالسلامالشدّة لهم من العذاب في أسوأ بقاع جهنّم . وويلٌ لهم الشدّة في العذاب ثانية مضافة إلى الاُولى ممّا يكسبونه ۱۶ من الأموال التي تأخذونها إذ أثبتوا عوامّهم
على الكفر بمحمّد رسول اللّه ، والجحد لوصيّه وأخيه عليّ بن أبي طالب وليّ اللّه .
ثمّ قال عليه السلام : قال رجل للصادق عليه السلام : فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمّهم ۱۷ بتقليدهم والقبول من علمائهم ، وهل عوامّ اليهود إلاّ كعوامّنا؟ ۱۸
فقال عليه السلام : بين عوامّنا وعلمائنا وبين عوامّ اليهود وعلمائهم فرق من جهة ، وتسوية من جهة . أمّا من حيث استووا : فإنّ اللّه قد ذمّ عوامّنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامّهم ، وأمّا من حيث افترقوا فلا .
قال : بيّن لي يابن رسول اللّه . قال عليه السلام : إنّ عوامّ اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشاء ، وبتغيير الأحكام عن وجهها ۱۹ بالشفاعات والعنايات والمصانعات ، وعرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون به أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه ، وأعطوا مالا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم ، وظلموهم من أجلهم ، وعرفوهم يقارفون ۲۰ المحرّمات ، واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على اللّه ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللّه ، فلذلك ذمّهم لما قلّدوا من قد عرفوا ومن قد علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في حكايته ، ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى ، وأشهر من أن لا تظهر لهم .
وكذلك عوامّ اُمّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة ، والتكالب
على حطام الدنيا وحرامها ، وإهلاك من يتعصّبون عليه ، وإن كان لإصلاح أمره مستحقّاً ، وبالترفرف بالبرّ والإحسان على من تعصبّوا له ، وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّاً ، فمن قلّد من عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء ، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم اللّه بالتقليد لفسقة فقهائهم .
فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه فللعوامّ أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة ، لا جميعهم ، فإنّه من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقه فقهاء العامّة ، لا تقبلوا منه ۲۱ شيئاً ولا كرامةً ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل هنا ۲۲ أهل البيت لذلك ؛ لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم ، وآخرين يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنّم ، ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا ، يتعلّمون بعض علومنا الصحيحة ، فيتوجّهون به عند شيعتنا ، وينتقصون بنا عند نصّابنا ، ثمّ يضيفون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن برآء منها ، فيتقبّله المستسلمون من شيعتنا على أنّه من علومنا ، فضلّوا وأضلّوا ، وهم أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن عليّ عليه السلام وأصحابه ، فإنّهم يسلبونهم الأرواح والأموال ، وهؤلاء علماء السوء الناصبون المتشبّهون بأنّهم لنا موالون ولأعدائنا معادون ، يدخلون الشكّ والشبهة على ضعفاء شيعتنا ، فيضلّونهم ويمنعونهم عن قصد الحقّ المصيب ، لاجرم أنّ من علم اللّه من قبله من هؤلاء العوامّ ۲۳ أنّه لا يريد إلاّ صيانة دينه وتعظيم وليّه لم يتركه في يد هذا المتلبّس الكافر ، ولكنّه يقيّض ۲۴ له مؤمناً يقف به على الصواب ، ثمّ يوفّقه اللّه
للقبول منه ، فيجمع له بذلك خير الدنيا والآخرة ، ويجمع على من أضلّه لَعْن الدنيا وعذاب الآخرة .
ثمّ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : شرار علماء اُمّتنا المضلّون عنّا ، القاطعون للطرق إلينا ، المسمّون أضدادنا بأسمائنا ، الملقّبون أندادنا بألقابنا ، يصلّون عليهم وهم للّعن مستحقّون ، ويلعنونّا ، ونحن بكرامات اللّه مغمورون ، وبصلوات اللّه وصلوات ملائكته المقرّبين علينا عن صلواتهم علينا مستغنون .
ثمّ قال : قيل لأميرالمؤمنين عليه السلام : مَن خير خلق اللّه بعد أئمّة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال : العلماء إذا صلحوا . قيل : فمن شرار خلق اللّه بعد إبليس وفرعون وثمود وبعد المتسمّين بأسمائكم والمتلقّبين بألقابكم والآخذين لأمكنتكم والمتأمّرين في ممالككم؟ قال : العلماء إذا فسدوا ، هم المظهرون للأباطيل ، الكاتمون للحقائق ، وفيهم قال اللّه عزّ وجلّ « أُوْلَـئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ »۲۵ الآية .
انتهى كلامه صلوات اللّه عليه وسلامه ۲۶ .
وبعض الألفاظ سقيمة في المنتسخ منه ، والحاصل أنّ من كان له قوّة على فهم كلام اللّه ورسوله وأوصيائه ومعرفة أحكامه على الوجه الذي يجوز له العمل به سمّوه مجتهداً ، ومن ليس كذلك كان مقلّداً لمن له تلك القوّة ولو في البعض .
وهذا الاجتهاد والتقليد لا مانع منه ، بل المدار عليه حتّى في عصر النبيّ والأئمّة عليهم السلام لمن لم يشاهدهم ويأخذ منهم بغير واسطة ومن في حكمه . وقد صرّح جدّي السعيد الشهيد الثاني ـ قدّس اللّه تربته ـ بهذا في غير موضع من كُتُبه ، وذكر أنّ من كانوا ينصبونه لتعليم الناس كان مجتهداً بالمعنى المذكور ، ولا شبهة في أنّ
العوامّ كانوا يرجعون إلى تعليم من هو مأمور بذلك ، فالاجتهاد والتقليد ليسا حادثين في هذا الزمان وما قاربه ليكونا من البدع .
وأمّا الاجتهاد والتقليد المذمومان فما كان ناشئاً عن مجرّد الرأي والاستحسان والقياس ونحوها ممّا لا يرجع مستنده إلى دليل شرعي . وهذا لا قائل به من الإماميّة المعتدّ بهم ، سوى من شذّ منهم ، فنقل عنه العمل بالقياس ۲۷ .
وقد صرّح العلاّمة ـ قدّس سرّه ـ في غير واحد من كُتُبه بأنّ الإماميّة لا يقولون بالاجتهاد وبأنّ فروعهم مأخوذة عن أئمّتهم عليهم السلام لا بالرأي والقياس ولا باجتهاد الناس ۲۸ ، فهذا هو الاجتهاد المذموم كاجتهاد أبي حنيفة ومن ضارعه ۲۹ .
وبعد أن علم أنّه لا مفرّ من العمل بالظنّ ولو في بعض الأحكام ثَبَتَ الاجتهاد والتقليد.
وممّا يؤيّد هذا ما يجده من تتبّع كلام متقدّمينا رضوان اللّه عليهم والخلاف الواقع بينهم في الفتاوى ، فإنّ مثل هذا لو كان مناطه ۳۰ كلّه غير الظنّ فلأيّ شيء يقع ۳۱ في الخلاف أو يكثر ، ويُرى ۳۲ مثل الصدوق ـ طاب ثراه ـ يُخالف أباه ويشنع على من يذهب إلى نقصان شهر رمضان ؟ وقد صرّح أبوه رحمه الله في رسالته إليه ـ على ما رأيته منقولاً عنها بخطّ من يُعتمد على نقله ـ أنّ شهر رمضان يكون ثلاثين يوماً وتسعة وعشرين يوماً ، وحمل أحاديث التمام على الفضل والكمال ، وولده رحمه اللّه يقول في الفقيه : إنّ من يعتقد ذلك ينبغي أن يتّقى كما يتّقى العامّة إلاّ أن يسترشد
فيرشد ۳۳ . هذا حاصل كلامهما .
ويغلظ الفضل بن شاذان في مسائل في الميراث ۳۴ والعلماء يوافقون الفضل ؛ ونرى ۳۵ الصدوق لا يعتمد على مجرّد ما نقله الكليني ـ قدس سرّه ـ في كتابه ، بل على ما أدّى إليه علمه أو اجتهاده من تعدّد الطرق والقرائن ونحوها ، والشيخ الطوسي ـ قدّس سرّه ـ يطعن في كثير ممّا نقله الكليني والصدوق ، وقد شهدا بصحّة ما في كتابيهما ۳۶ بأنّها أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً أو ضعيفة ۳۷ ، ومثل هذا كثير يظهر لمن تتبّع كتبهم وأقوالهم .
وفي الكافي في عدّة مواضع كلام له رحمه الله ولغيره يرجع إلى معنى الاستنباط ، ومناط مثل هذه الأشياء لا يخلو من الظنّ ، ولو كان مناط جميعها العلم والقطع ، لما كانت بهذه المثابة ، فكيف يثبت العلم والقطع لنا في كلّ ما وصل إلينا ، ولا يثبت لهم مع قرب زمانهم إلى المعصوم ، وقرب زمان بعضهم من بعض .
وإذا ثبت الظنّ أمكن فيه اختلاف الظنون ؛ فتختلف الفتاوى لأجلها . ولو سلّم القطع والعلم بكون الأحاديث المشهورة وارداً جميعها عن المعصوم ، فأيّ قطع يحصل في دلالة كثير منها مع اشتمالها على ما يحتاج إليه؟ ونحن نسأل ممّن يدّعي هذا أن يوضح لنا طريقا إلى العلم نخلّص به من العمل بالظنّ ، فإنّا لا نجد هذا إلاّ مجرّداً عمّا تركن النفس إليه ، وسدّا لباب التكليف والعمل بأحكام اللّه تعالى ما أمكن .
ولمّا كانت مراتب الظنّ متفاوتةً ، جعلوا من الأحاديث الصحيحَ والحسن والموثّق ؛ لاحتمال حصول الظنّ فيه ، والضعيفَ ليترك العمل به ؛ للنهي عن قبول
خبر الفاسق ، ولقولهم عليهم السلام : «فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه» ۳۸ وغيره ممّا تضمّن النهي عن أخذ العلم من المخالف ، وقد تقدّم طرفٌ منه . وقد يكون الضعيف مؤيَّداً في الجملة ، فيكون مناطاً للظنّ في الجملة .
فمجرّد كون المخالفين قسّموا أحاديثهم إلى هذه الأقسام لا يصلح مانعا من تقسيم علمائنا أحاديثهم إليها . وهذا من قبيل ما يحكى عن بعض المخالفين أنّهم لا يأكلون الجبن مع البطّيخ ؛ لكون الإماميّة تجمع بينهما .
نعم قد يقال : إنّ ما تكرّر في الكتب المشهورة مع شهادتهم بصحّته يفيد قوّة الظنّ ؛ واللّه تعالى أعلم ، والمسؤول من كرم اللّه سبحانه أن يعجّل ظهور صاحب الأمر عليه السلام ليخلّص الناس من هذه الشكوك والأوهام ، فقد صار متعارفاً أن يرى الإنسان عاراً عليه أن يسلك طريقاً سلكه غيره وإن كان حقّاً ، واللّه يهدينا وجميع المؤمنين إلى سواء السبيل .
بقي شيء : وهو أنّ الشروط التي ذكرها المتأخّرون للاجتهاد ۳۹ ، قد يقال : إنّ بعضها يظهر أنّه لم يكن مشترطاً سابقاً .
ويمكن الجواب بأنّ الاحتياج إليها لأجل انتشار الأقوال وكثرة الفروع وبنائها على الشروط المذكورة فاحتيج إلى معرفتها لذلك ، وفي الزمان السابق لم يكن ما يقتضي الاحتياج إلى جميعها ، وبعدُ فلا يخلو الاحتياج إلى بعضها من تأمّل .
وقد صنّف جدّي السعيد الشهيد الثاني رحمه الله رسالة في الاجتهاد ، وجعله أمراً سهلاً يقدر عليه أكثر الناس حتّى العامي والأعمى ، ولكن قصور الهمم هو الذي يبعث الناس على ترك تحصيل هذه المرتبة ، وتخيّل أنّ المجتهد ينبغي أن يكون في مرتبة مثل العلاّمة قدّس سرّه . وليس الأمر كذلك ، وذكر فيها اجتهاد المتقدّمين ۴۰ .
وهذا معنى ما رأيته من كلامه ، واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال ، وإليه المرجع وعليه الاتّكال .

1.التوبة (۹) : ۳۱ .

2.النهاية ، ج ۱ ، ص ۳۱۷ (حبر) .

3.في «ج» : «حلال اللّه » .

4.في «ج» : «لا يصحّ» .

5.ا يؤيّد هذا في المقلَّد والمقلِّد . وكلّ هذا لا دَخْل له بالاجتهاد والتقليد الخاصّين ، فإنّ المجتهد يجتهد في تحصيل الحكم الشرعي مع العلم الذي به يجتهد ، والرخصة له في العمل بما يصل إليه على وجه يجوز له العمل به ، وإن كان في الواقع كذباً ، كما تقدّم في حديث السكوني الكافي ، ج ۱ ، ص ۵۲ ، باب التقليد ، ح ۷ .

6.الكافي ، ج ۱ ، ص ۶۷ ، باب اختلاف الحديث ، ح ۱۰ ؛ و ج ۷ ، ص ۴۱۲ ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح ۵ ؛ تهذيب الأحكام ، ج ۶ ، ص ۳۱۸ ، ح ۵۱۴ ، و ص ۳۰۱ ، ح ۸۴۵ ؛ الاحتجاج ، ج ۲ ، ص ۳۵۵ ؛ وسائل الشيعة ، ج ۱ ، ص ۳۴ ، ح ۵۱ ؛ و ج ۲۷ ، ص ۱۳۶ ، ح ۳۳۴۱۶ .

7.الكافي ، ج ۷ ، ص ۴۱۲ ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح ۴ ؛ الفقيه ، ج ۳ ، ص ۲ ، ح ۳۲۱۶ ؛ تهذيب الأحكام ، ج ۶ ، ص ۲۱۹ ، ح ۵۱۶ ؛ دعائم الإسلام ، ج ۲ ، ص ۵۳۰ ، كتاب آداب الصلاة ، ح ۱۸۸۵ ؛ وسائل الشيعة ، ج ۲۷ ، ص ۱۳ ، ح ۳۳۰۸۳ .

8.. البقرة (۲) : ۷۸ .

9.البقرة (۲) : ۷۹ .

10.في المصدر: + «أهدف». والهَدَف بفتحتين: كلّ شيء عظيم مرتفع. المصباح المنير، ج۲، ص۳۴۹ (هدف).

11.الصهبة : إحمرار الشعر . المصباح المنير ، ج ۱ ، ص ۴۲۲ (صهب) .

12.في المصدر : «إصابتهم» .

13.في المصدر : «وأهل بيته وخاصّته» بدل «وأهل خاصّته» .

14.البقرة (۲) : ۷۹ .

15.في المصدر : «بما يكسبونه» .

16.في «ج» : «ذمّتهم» .

17.في المصدر : + «يقلّدون علماءهم» .

18.في «ألف ، ج » والمصدر : «واجبها» .

19.قارَفَ الذنب وغيره : داناه ولاصقه ، وقارَفَ فلانٌ الخطيئة ، أي خالطها . ولا تكون المقارفة إلاّ في الأشياء الدنيّة . لسان العرب ، ج ۹ ، ص ۲۸۰ (قرف) .

20.في المصدر : «منّا عنه» .

21.في المصدر : «يحتمل عنّا» .

22.في المصدر : «القوم» .

23.قَيَّضَ اللّه له ، أي هَيَّأَه وسَبَّبه من حيث لا يحتسبه . لسان العرب ، ج ۷ ، ص ۲۲۵ (قيض) .

24.البقرة (۲) : ۱۵۹ ـ ۱۶۰ .

25.الاحتجاج ، ج ۲ ، ص ۴۵۶ .

26.حكى العمل بالقياس عن ابن الجنيد في الحدائق الناضرة ، ج ۵ ، ص ۱۷۳ و ۴۸۱ ، وج ۲۰ ، ص ۳۹۱ .

27.مختلف الشيعة ، ج ۹ ، ص ۲۱۳ ؛ تحرير الأحكام ، ج ۱ ، ص ۱۳ .

28.«ضارعه» أي شابهه ، والمضارعة : المشابهة . راجع لسان العرب ، ج ۸ ، ص ۲۲۳ (ضرع) .

29.في «ألف ، ب» : «مناط» .

30.في «د» : + «في» .

31.في «ألف ، ب» : «نرى» .

32.الفقيه : ج ۲ ، ص ۱۱۱ ، ذيل ح ۴۷۳ و ۴۷۴ . وانظر : الخصال ، ص ۵۳۲ ، ذيل ح ۹ ؛ وسائل الشيعة ، ج ۱۰ ، ص ۲۷۴ ، أبواب شهر رمضان ، الباب ۵ .

33.انظر : الإيضاح ، للفضل بن شاذان ، ص ۳۳۳ .

34.في «ج» : «ترى» .

35.انظر مقدّمة الكافي والفقيه .

36.في «ألف ، ب» : «بأنّها تارة بالضعف ، وتارة أخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملاً» بدل : «بأنها أخبار ـ إلى ـ أو ضعيفة» .

37.الكافي ، ج ۱ ، ص ۳۲ ، باب صفة العلم وفضله ، ح ۲ ؛ بصائر الدرجات ، ص ۱۰ ـ ۱۱ ، باب نادر وهو منه ... . ، ح ۱ و ۳ ؛ وسائل الشيعة ، ج ۲۷ ، ص ۷۸ ، ح ۳۳۲۴۷ .

38.انظر : مفاتيح الاُصول ، ص ۶۲۶ ؛ معالم الاُصول ، ص ۲۸۸ ؛ قوانين الاُصول ، ج ۲ ، ص ۲۷۸ .

39.تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد (رسائل الشهيد الثاني) ج ۱ ، ص ۹ .

  • نام منبع :
    الدرّ المنظوم من كلام المعصوم
    المساعدون :
    الدرایتي محمد حسین
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1430 ق/ 1388 ش
    الطبعة :
    الاولى
عدد المشاهدين : 103751
الصفحه من 715
طباعه  ارسل الي