۰.على غيرهم التهجّمَ على القول بما يجهلون ، ومَنَعَهم جَحْدَ ما لا يعلمون ؛ لما أرادَ تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خَلْقه ، .........
قوله : (عَلى غَيْرِهم التَّهَجُّمَ على القولِ بما يَجهَلونَ) أي الإقدام على القول بما لا يعلمون . وقد ثبت أنّهم عليهم السلام لا يقولون إلاّ عن علم ، فلا يتوهّم من العبارة المفهوم الضعيف .
قوله : (ومَنَعَهُم جَحْدَ ما لا يَعْلَمونَ) أي منع غيرهم أن ينكروا الشيء الذي يصل إليهم مع العلم بكونه منهم عليهم السلام ولا يعلمون وجهه ومعناه .
والجمع باعتبار إرادة المتعدّد من غيرهم ، وقوله «وحظر ...» مؤيّد لأن يكون المراد بما علم ما علم أنّه ورد عنهم فقط ؛ وإلاّ كان الأنسب أن يقال «فحظر» بالفا ، إلاّ أن يكون الأوّل ذكره لورود ما يدلّ عليه ، والثاني لقوله تعالى : « أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَـاقُ الْكِتَـابِ أَن لاَّيَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ »۱ وقوله تعالى : «بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ»۲ فتأمّل .
قوله : (لِما أرادَ اللّه تبارك وتعالى مِن اسْتِنْقاذِ مَنْ شاءَ مِنْ خَلْقِهِ) .
هذه ۳ علّة لجميع ما تقدّم ممّا يصلح كونه علّة له ، والمعنى : أنّ اللّه ۴ تعالى فعل كذا وكذا ؛ لإرادة استنقاذ من شاء من خلقه .
واعلم أنّ ضمير «شاء» يحتمل وجهين .
أحدهما ـ وهو الظاهر ـ : أن يكون راجعا إلى اللّه تعالى ، والمعنى حينئذٍ : أنّ اللّه تعالى يستنقذ بحججه ودلائله مَن تعلّقت مشيّته باستنقاذه ، ولا يستنقذ من لم يشأ استنقاذه .
وخلقه تعالى أقسام : منهم من يكون له به تمام العناية ، بأن يسدّده ويوفّقه لقبول الحقّ والعمل به زيادةً عن أصل اللطف الذي يشترك فيه هذا وغيره ، وتعلّق الاستنقاذ والمشيّة بهذا ظاهر .
وقسمٌ يختار من نفسه الطاعة بالاختيار الذي أعطاه اللّه تعالى كلّ مكلّف ، وهذا أيضاً قد شاء اللّه استنقاذه .
ولا يتوهّم من هذا القسم كون الأوّل مجبوراً ؛ فإنّ لطف اللّه تعالى به زيادةً عن غيره لا يقتضي سلب الاختيار ، نعم قد يتّحد مع هذا بأن يكون سبب تلك العناية طاعته وانقياده.
وقسمٌ خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً . وهؤلاء قد يشاء اللّه إدخالهم أو بعضهم في قسم المستنقذين بالعفو عنهم ، وقد لا يشاء بمقتضى عدله .
وقسمٌ بقوا على كفرهم أو ضلالتهم وهؤلاء لم يشأ اللّه استنقاذهم ؛ من حيث إنّهم اُعطوا القدرةَ والاختيار ، واتّبعوا أهواءهم من غير جبرٍ لهم على ذلك . ولو شاءاللّه أن يجبر هؤلاء على الطاعة لفَعَلَ ، ولكن حكمة التكليف اقتضت ذلك ، كما قال اللّه ۵ تعالى : « وَ لَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَأَمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ »۶ . فمشيّة اللّه تعالى لاستنقاذ من شاء من حيث إنّهم يختارون الطاعة ، أو من حيث علمه بمَن يُطيع ومن لا يُطيع ؛ شاء أن يستنقذ المطيع بالحجج التي يتبعها . وعلمه تعالى غير مؤثّر في المعلوم .
والمشيّة لها معانٍ متعدّدة ، لكلّ مقام منها معنى ؛ وستأتي إن شاءاللّه تعالى .
الوجه الثاني : أن يكون راجعا إلى «من» وهو عائد الموصول . والمعنى حينئذٍ : أنّه تعالى نَصَبَ الحجج والدلائل لتعلّق إرادته باستنقاذ مَن شاء مِن الخَلْق الاستنقاذ
أو الطاعة وعمل بما يقتضيه .
وهذا الوجه بحسب المعنى لا تدخله شبهة من شبه أهل الجبر . والمفعول كثيراً مّا يحذف لقرينة ، والقرائن هنا كثيرة ، حاليّة ومقاليّة ، إلاّ أنّه خلاف الظاهر من هذا التركيب .
وهذا الوجه يقرب من معنى قوله تعالى : « فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِى سَبِيلاً »۷ ، وقوله تعالى : « لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ »۸ فإنّه يدلّ ظاهراً ـ واللّه أعلم ـ على أنّ اللّه تعالى أعطى عباده القدرة والاختيار لسلوك السبيل إلى اللّه والاستقامة وعدمها ، مع ما تظافرت به الأدلّة على نفي الجبر وتكليف مالا يطاق ، واستلزام ذلك العبث في حقّه تعالى ونسبة الظلم إليه .
فإن قلت : ما بعد ذلك ـ وهو قوله تعالى : « وَ مَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ »۹ ـ يدفع ذلك .
قلت : بعد أن علم وتقرّر أنّ اللّه تعالى منزّه عن الظلم والعبث والاضطراب في كلامه ، فأيّ وجه لكونه تعالى يعد ويهدّد ويقول : من شاء فعل كذا ، ثمّ يأتي بما يدلّ على أنّهم ليس لهم قدرة على ذلك ؛ فلابدّ من الحمل على معنى لا يتناقض به كلامه تعالى .
وقد ذكر أهل العدل والحقّ في تفسيرهم أنّ المعنى : وما تشاؤون ذلك إلاّ أن يشاء اللّه إجباركم على الاستقامة واتّخاذ السبيل إليه .
أقول : فالخطاب للجميع ، والمعنى أنّ الجميع لا يفعلون إلاّ أن يجبر من لا يفعل ؛ فيتعلّق الفعل بالجميع ؛ أو أنّ الخطاب لمن لم يشأ ؛ واللّه أعلم ؛ أو ما تشاؤون ذلك إلاّ واللّه يشاؤه .
ويخطر بالبال وجه يرجع إلى الثاني ، وهو مقتضى هذا التركيب ، وذلك أنّ
«أن» مع ما بعدها في تأويل المصدر .
فالمعنى ـ واللّه أعلم ـ : وما تشاؤون إلاّ مشيّة اللّه ، بمعنى أنّ اتّخاذ السبيل والاستقامة ممّا يشاؤه ۱۰ اللّه لكم ويرضيه ؛ فمشيّتكم لا تخالف ما يشاؤه ويرتضيه .
والظاهر أنّ هذا المرادُ من عبارتهم .
فإن قلت : قد ورد في الحديث : «ما شاء اللّه كان ، ومالم يشأ لم يكن» ۱۱ فكيف وجهه؟
قلت : قد خطر لي في توجيهه أوجه : ۱۲
أحدها : أن يكون المعنى أنّ كلّ شيء تتعلّق به مشيّة اللّه ۱۳ تعالى يكون ، بخلاف مشيّة غيره ، فإنّه لا يكون كلّ ما يشاؤه ؛ وما لم يشأ لم يكن ، بخلاف غيره ، فإنّ الذي لا يشاؤه قد يكون . ونحوه ما في الدعا :«يامن يفعل ما يشاء ، ولا يفعل ما يشاء غيره» . ۱۴
الثاني : أن يكون معنى «ماشاء اللّه كان» كما تقدّم ، و«مالم يشأ لم يكن» بمعنى : مادام لم تتعلّق به مشيّته لم يكن ، بخلاف العبد ، فإنّ الشيء قد يكون بمشيّة اللّه تعالى وإن لم تتعلّق به مشيّة العبد .
الثالث : أن يكون معنى «مالم يشأ لم يكن» : ماشاء أن لا يكون لم يكن ؛ لمقابلة ما قبله ، نحو قوله تعالى : «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ »۱۵ فإنّ ظاهره ـ واللّه أعلم ـ أنّ المعنى : ومن يحكم بغير ما أنزل اللّه ؛ لأن لا يدخل في الحصر من لم يحكم بشيء أصلاً . ومثلُه كثيرٌ .
الرابع : أن يكون معنى المشيّة هنا فيما يتعلّق بفعل العبد أن يتركه على حاله ، ولا يحول بينه وبين الفعل ، فيصدق حينئذٍ أنّ كلّ ماشاء اللّه كان ممّا يشمل فعل العبد ، وإن كان اللّه تعالى لا يريده منه ولا يرتضيه ، ومالم يشأ بمعنى مَنَعَه منه فيما يتعلّق به ، وما يتعلّق به تعالى وجهه ظاهر .
وبهذا المعنى فسّر الصدوق رحمه اللّه في كتاب الخصال ما يقرب من هذا ۱۶ ، وأظنّه في كتاب التوحيد أيضا .
وقد يفسّر المشيّة في نحو هذا بالعلم ، بمعنى أنّ كلّ ما علم اللّه أنّه يكون ، فلابدّ أن يكون ، وما علم أن لا يكون ، فلا يكون .
وفي كلّ هذه الأوجه تنزيه له تعالى عن القبيح الذي يلزم من قول أهل الجبر ، وتمسّكهم بمثله . وإنّما أطلنا الكلام هنا لأنّ ما ذكر لعلّه ينفع في مواضع اُخر ؛ واللّه تعالى أعلم .
فإن قلت : هل يجوز أن تكون «لمّا» مشدّدة بمعنى «حين»؟
قلت : وجود «من» ينافي هذا الوجه ، ولولاها لصحَّ أيضاً .
1.الأعراف (۷) : ۱۶۹ .
2.يونس (۱۰) : ۳۹ .
3.في «ألف ، ب ، ج » : «هذا» .
4.في «ج» : «أنّه» بدل «أنّ اللّه » .
5.في «ألف ، ب» : «قاله» بدل «قال اللّه » . وفي «د» : - «اللّه » .
6.يونس (۱۰) : ۹۹ .
7.المزّمّل (۷۳) : ۱۹ .
8.التكوير (۸۱) : ۲۸ .
9.التكوير (۸۱) : ۲۹ .
10.في «ج» : «بما يشاؤه» .
11.الزهد لحسين بن سعيد ، ص ۱۴ ، باب الأدب والحثّ على الخير ، ح ۲۸ ؛ الكافي ، ج ۲ ، ص ۵۷۱ ، باب الحرز والعوذة ، ح ۱۰ ؛ وج۸ ، ص ۸۱ ، ح ۳۹ ؛ الفقيه ، ج ۴ ، ص ۴۰۲ ، ح ۵۸۶۸ ؛ الأمالي للصدوق ، المجلس ۷۴ ، ح ۱ ؛ الخصال ، ص ۶۳۰ .
12.في حاشية «ألف ، د» : «رأيت لشيخنا المفيد ـ قدّس اللّه روحه و نوّر ضريحه ـ بعد كتابة هذا الكتاب بنحو عشر سنين رسالةً ، وفيها ما هذا لفظه [ في د : رأيت رسالة للشيخ المفيد ـ طاب ثراه ـ في العقايد بعد كتابة ما هنا ، وفيها ما هذا لفظه ] : قول المسلمين : ما شاء اللّه كان ، وما لم يشأ لم يكن ، يعنون بذلك منه أفعاله تعالى خاصّة ، دون افعال المكلّفين ، يشهد بذلك قوله تعالى : « وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ » [ البقرة (۲) : ۲۰۵ ]و « وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُـلْمًا لِّلْعِبَادِ » [ غافر (۴۰) : ۳۱ ] انتهى [ في د : وهو صريح فيما ذكرته ] . (الف : منه عفا اللّه عنه) ؛ (د : منه دام تأييده) » .
13.في «ألف ، ب» : «مشيّته» .
14.الكافي ، ج ۲ ، ص ۵۴۹ ، باب الدعاء في إدبار الصلوات ، ح ۹ ؛ الدعوات ، للراوندي ، ص ۴۵ ، فصل في ألحّ الدعاء وأوجزه ، ح ۱۱۲ ؛ فلاح السائل ، ص ۱۶۵ ، الفصل التاسع عشر فيما نذكره من فضل صلاة الظهر و ... ؛ مهج الدعوات ، ص ۲۳۸ ، ومن ذلك دعاء مستجاب ؛ عدّة الداعي ، ص ۶۱ ؛ المصباح ، للكفعمي ، ص ۲۵۷ ، الفصل الثامن والعشرون في أدعية لها أسماء معروفة ؛ البلد الأمين ، ص ۳۹ .
15.المائدة (۵) : ۴۵ .
16.الخصال ، ص ۶۳۱ .