۰.فاعلم يا أخي ـ رحمك اللّه ـ أنّ اللّه ـ تبارك وتعالى ـ خلَق عبادَه خِلْقةً منفصلةً من البهائم في الفِطَنِ والعقولِ المركّبةِ فيهم ، محتملةً للأمر والنهي ، وجعَلهم جلّ ذكرُه صنفين : صنفا منهم أهلَ الصحّة والسلامة،وصنفا منهم أهلَ الضرر والزمانة.فَخَصَّ أهلَ الصحّة والسلامة بالأمر والنهي ، بعد ما أكْمَلَ لهم آلةَ التكليف ، ووَضَعَ التكليفَ عن أهل الزمانة والضرر ؛ إذ قد خلَقهم خِلْقَةً غيرَ محتملةٍ للأدبِ والتعليمِ ، وجعَل عزّ وجلّ سَبَبَ بقائهم أهلَ الصحّة والسلامة ، وجعَل بقاءَ أهلِ الصحّة والسلامة بالأدب والتعليم . فلو كانت الجَهالة جائزةً لأهل الصحّة والسلامة لجازَ وَضْعُ التكليفِ عنهم ، وفي جواز ذلك بطلانُ الكتب والرسلص 6
والآداب ، وفي رفع الكتبِ والرُّسُلِ والآدابِ فسادُ التدبير ، والرجوعُ إلى قولِ أهل الدهر ؛
قوله : (مُحْتَمِلَةً للأمرِ والنهي) .
أراد هنا أنّ خلقة الإنسان محتملة للأمر والنهي بالنسبة إلى خلقة البهائم ؛ فهو في معنى إرادة الطبيعة من حيث هي ، أو بإرادة المجموع من حيث المجموع ، لا الحكم على الأفراد ؛ لأن لاينافي قوله بعد : (ووَضَعَ التكليفَ عن أهلِ الزَّمانَةِ والضررِ ؛ إذْ قد خَلَقَهُم خِلْقَةً غيرَ مُحتَمِلَةٍ للأدبِ والتعليمِ) .
قوله : (وجَعَلَ عزّ وجلّ سببَ بقائهم أهلَ الصحّةِ والسلامةِ ، وجَعَلَ بقاءَ أهلِ الصحّةِ والسلامةِ بالأدَبِ والتعليمِ ، فلو كانَتِ الجَهالَةُ جائزةً لأهلِ الصحّةِ والسلامةِ ، لجازَ وَضْعُ التكليفِ عنهم ، وفي جوازِ ذلك بُطلانُ الكُتُبِ والرُّسُلِ والآدابِ ، وفي رَفْعِ الكُتُبِ والرُّسُلِ والآداب فَسادُ التدبيرِ ، والرجوعُ إلى قولِ أهلِ الدَّهْرِ) .
حاصل الكلام في هذا المقام : أنّ اللّه سبحانه وتعالى اقتضت حكمته خَلْق الإنسان للتكليف الذي أراده وما يتبعه ، قال تعالى : « وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ »۱ . وقد ثبت أنّ فعله تعالى منزّه عن العبث بقوله : « أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ
عَبَثًا »۲ وغيرِه ممّا يدلّ على التكليف ونفي العبث ؛ وعلى أنّه تعالى إنّما يفعل الأشياء لحِكْمةٍ وغَرَضٍ يعود نفعه على العبد فيما يتعلّق به . والأدلّة على ذلك قد تظافرت عقلاً ونقلاً .
فإذ أثبت ذلك وأخبر اللّه تعالى به ، لَزِمَ تحقّق وقوع التكليف ، ووَجَبَ على اللّه سبحانه ـ بمعنى عدم التخلّف ـ أن ينصب للمكلّف ما يدلّه ۳ على طريق التكليف وجهته ؛ لقبح تكليف الغافل ومالا يطاق ؛ ووَجَب أن يعطي المكلّف ما يتوقّف عليه التكليف ويحصل به من العقل والآلات ، بحيث يقدر على ما اُريد منه .
وقد أنْزَل اللّه سبحانه الكُتُب وأرْسَل الرُّسُل ونحوهم لتعليم المكلّف ما كُلّف به واُريد منه ، فلو جوّز الجهل وعدم العلم من المكلّف ، كانَ ذلك بخلاف ما اقتضته الحكمة وما أخبر تعالى بوقوعه ، ونقضاً للغرض الذي ثبت .
ولو ارتفع التكليف وجاز الجهل ، لاَسْتَلْزَمَ بطلان الكُتُب والرسل ؛ لأنّ وجودهم لأجل المكلّفين وتعليمهم ، فوجودهم حينئذٍ عَبَثٌ لا يجوز على الحكيم ، وفي بطلان ذلك فساد التدبير ؛ لأنّ اللّه سبحانه اقتضى تدبيرُه وحكمته إيجاد المكلّفين وتكليفهم ، فارتفاع الكتب لبطلانها المترتّب على جواز رفع التكليف الموجب لعدم بقاء أهل التكليف بعد الإخبار بوقوعه وإرادة الغرض منه فسادٌ في تدبير ما يراد من الغرض ، أو جهل من صاحب الغرض ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً .
وفساد التدبير أو الجهل يدلّ على فساد المدبّر ، وهذا ينافي إثبات الصانع الحكيم . وإذا كان الصانع بهذه الصفة ، رجع الأمر إلى قول الدهريّة من التعطيل ، وعدم وجود صانع مدبّر للعالم ؛ فثبت المطلوب ، وهو عدم جواز الجهل ورفع التكليف .
ولو ارتفعت الكُتُب والرُّسُل مع بقاء التكليف ، كانَ في ذلك أيضاً فسادُ التدبير
الذي خُلقوا لأجله ؛ لأنّ في إرادة شيء من المكلّف لا يعرف وجه الوصول إليه ـ والعقل غير مستقلّ بمعرفته ـ فسادا للتدبير على نحو ما ذُكر .
وأمّا أهل الضرر والزمانة ـ وهما الجنون وكلّ ما يرتفع معه التكليف ـ فإنّهم وإن لم يتعلّق بهم التكليف ، لكن وجودهم بسبب وجود المكلّفين ؛ لأنّهم لولاهم لم يوجدوا ، فضلاً عن البقاء ؛ لعدم أهليّتهم ۴ لما يتعلّق به الغرض ، فيكون وجودهم وبقاؤهم وحدهم عبثاً ومنافياً للحكمة . ومع وجود المكلّفين يحصل الغرض من التكليف . ولا ينافيه وجود غير المكلّف ، ومن التكليف إعانتهم ومساعدتهم على ما يحتاجون إليه وحفظهم ، فيحصل الثواب بذلك .
وبالجملة ، فمع وجود المكلّفين يرتفع سبب عدم بقائهم ، فوجودهم تابعٌ لوجودهم ، وبقاؤهم تابعٌ لبقائهم كبقيّة مخلوقاته تعالى من الحيوانات وغيرها التي خُلقت لأجلهم .
وإذا كان بقاء المكلّفين لأجل التكليف ، فإذا ارتفع ارتفعوا ، فلم تبق أهل الضرر والزمانة . وقد ورد أنّ الأرض لو خَلَتْ من الإمام لساخَتْ بأهلها . ۵ وأنّ الأئمّة عليهم السلام أركان الأرض أن تميد بأهلها . ۶ ومثلُه كثيرٌ .
وفائدة بَعْث الأنبياء والرسل ونَصْب الأئمّة عليهم السلام دلالة المكلّف وإثبات الحجّة عليه ، فإذا ارتفع التكليف ارتفع ذلك ، فامتنع بقاء المكلّف ، فيمتنع بقاء أهل الضرر والزمانة .
وورد أيضاً ما معناه أنّ في الأرض مَن بهم يحصلُ الرزق ، وبهم ينزل القطر . ۷
وظاهره أنّه غير مخصوص بالأئمّة عليهم السلام ؛ وذلك فَرْع تكليف من بهم يحصل ذلك ، فيكون بقاء المكلّف سبباً لبقاء غيره ، إلاّ أن يكون المراد من الرزق زيادته ووفوره الذي يحصل بسببه عدم القحط .
ولعلّ هذا أظهر ؛ فإنّ بقاء التكليف المقتضي لوجود الإمام لا يرتفع معه ذلك بالكلّيّة ، إلاّ أن يكون المراد الأئمّة عليهم السلام ونحوهم ، فيرجع إلى السابق .
ويحتمل أن يراد ببقائهم أنّ التكليف به ينتظم أمر المعاش ، وأهل الضرر والزمانة لا يتمّ بهم انتظام المعاش ، فسبب بقائهم وتعيّشهم وجود المكلّفين الذين يوصلون إليهم ما به تقوم معيشتهم بحسب ماجرت به العادة .
ولكن يأتي ما يبعّد هذا من قوله : (وكانوا۸يَكونونَ عند ذلك بمنزلةِ البَهائم ، ومَنزلةِ أهلِ الضررِ والزمانة ، ولو كانوا كذلك لما بَقُوا طَرْفَةَ عَينٍ ، فلمّا لم يَجُزْ بَقاؤهم إلاّ بالآداب۹والتعلّم۱۰لم يجز۱۱...) .
وكيف كان ، فقد جعل اللّه سبحانه بقاءهم منوطاً ببقاء أهل التكليف ، وبقاء أهل التكليف منوطاً بوجوب التكليف والتعلّم ، فإنّ وجودهم وبقاءهم لما خلقوا لأجله ، فإذا انتفى انتفيا .
أو يقال : إنّ في ذلك انتظام حالهم الذي يترتّب عليه الغرض ، وإرسال الرسل وإنزال الكتب منوطان بوجود المكلّفين ؛ وقد ثبت جميع ذلك .
فإن قلت : لم لا يمكن البقاء مع رفع التكليف وأن يكون من باب البداء ؟
قلت : بعد أن أخبر سبحانه بأنّه خَلَقهم للتكليف ، وترتّب الثواب والعقاب عليه للمطيع والعاصي ، وأنّ ذلك كائن إلى انقضاء الدنيا ، وأنّه يُجازيهم ۱۲ في الآخرة على ذلك ؛ فوقوع خلاف ذلك مخالف لما أخبر به وظهر من حكمته وإرادته ؛ فلا يتصوّر البداء في مثل هذا ؛ فإنّه يستلزم وقوع الكذب ؛ تعالى اللّه عن ذلك . واحتمال النَّسْخ يندفع بنحو ما ذكر في البداء .
1.الذاريات (۵۱) : ۵۶ .
2.المؤمنون (۲۳) : ۱۱۵ .
3.في «ج» : «ما يدلّ» .
4.في «ج» : «أصليّتهم» .
5.مرّ تخريجه قبيل هذا .
6.مرّ تخريجه قبيل هذا .
7.علل الشرايع ، ج۱ ، ص۱۲۴ ، باب ۱۰۳ ، ح۱ ؛ كمال الدين ، ج۱ ، ص۲۵۹ ، باب ۲۴ ، ح۵ ؛ إعلام الوري ، ص۳۹۹ ؛ القصص ، للراوندي ، ص۳۶۶ ، ح۴۳۹ ؛ وفي بحار الأنوار ، ج۲۳ ، ص۱۹ ، باب الاضطرار إلى الحجّة ، ح۱۴ عن علل الشرايع ؛ وج۳۶ ، ص۲۵۴ ، باب نصوص الرسول ... ، ح۶۹ ، عن كمال الدين .
8.كذا في كثير من نسخ الكافي ، وفي بعض نسخه والمطبوع : «وكادوا» .
9.في كثير من نسخ الكافي والمطبوع «بالأدب» .
10.كذا في جميع النسخ ، وفي الكافي المطبوع ونسخه : «بالتعليم» .
11.كذا في جميع النسخ ، وفي الكافي المطبوع ونسخه : «وجب ...» بدل «لم يجز ...» .
12.في «ب» : «مجازيهم» .