۰.فأحقّ ما اقْتَبَسَه العاقلُ ، وَالْتَمَسَه المتدبِّرُ الفطنُ ، وسعى له الموفَّقُ المصيبُ ، العلمُ بالدين ، ومعرفةُ ما استعبدَ اللّه ُ به خَلْقَه من توحيده ، وشرائعِه وأحكامِه ، وأمرِه ونهيه ، وزواجِرِه وآدابِه ؛ إذ كانت الحجّةُ ثابتةً ، والتكليفُ لازما ، والعمرُ يسيرا ، والتسويفُ غيرَ مقبولٍ . والشرطُ مِن اللّه ـ جلّ ذكره ـ فيما استعبد به خلقَه أن يُؤدّوا جميعَ فرائضه بعلم ويقينٍ وبصيرةٍ ؛ ليكونَ المؤدِّي لها محمودا عند ربِّه ، مُستوجِبا لثوابهِ وعظيمِ جزائه ؛
قوله : (والشرطُ مِنَ اللّه ِ ـ جلَّ ذِكْرُه ـ فيما استعبَدَ به خَلْقَه أن يُؤدّوا جميعَ فرائضِه بعِلْمٍ ويقينٍ وبصيرةٍ) .
يحتمل أن يكون المراد بالعلم العلمَ العادي الشامل للظنّ القويّ ۱ ؛ لما علم أنّه في زمن النبيّ صلى الله عليه و آله كان العمل بالظنّ كثيراً ، وكذا في زمن الأئمّة عليهم السلام ، فإنّه يستبعد ـ بل قد يقال بامتناع ـ وصول الأحكام إلى جميع المسلمين على سبيل القطع والعلم الجازم المطابق للواقع ، فإنّ الناس كانوا يؤمرون بما يصل إليهم ممّن يعلم أنّه غير معصوم . وأمر المعصوم باتّباع قوله لا يدلّ على أنّه لا يقول إلاّ ما هو معصوم فيه عن الخطأ ، وتكليفُ كلّ أحدٍ بتحصيل العلم المذكور بمشافهةٍ وتواترٍ ونحوهما والعمل به لا بغيره يَستلزمُ حرجاً زائداً ومشقّةً عظيمةً .
فعلى هذا يكون المراد ـ واللّه أعلم ـ أنّ الإنسان ينبغي أن يكون علمه وعمله مأخوذين عن أهل العلم عليهم السلام بحسب ما يصل إليه على وجه يحصل له به القطع أو
الظنّ . ومَن لم يكن عنده أثر من هذا العلم ، كانَ على غير يقين وبصيرة ، وكان شاكّاً في أنّ ما عمله برأيه وقياسه هل يكون موافقاً لحكم اللّه ، أو لما كان يصل إليه ويظنّ أنّه حكم اللّه فيعمل به ولو على سبيل الانقياد والتسليم ، أم لا؟
وممّا يؤيّد هذا الحمل اختلاف المتقدّمين في المسائل وتغليطُ بعضهم بعضاً ، مع قربهم من زمان الأئمّة عليهم السلام ، ومعاصرة بعضهم لهم ، ولم يكن أحدٌ يعتمد على مجرّد نقل الآخر إلاّ بقرائن معها تفيدهم ذلك ؛ والعلم لا يكون مناطاً للاختلاف ، بل العلم العادي الشامل للظنّ يترتّب عليه ذلك منهم ومن غيرهم . ولو فرض القطع بألفاظ المتن بتواترٍ ونحوه ، فالمعاني التي يدلّ عليها كثير منها يتطرّق إليها الاحتمال المنافي للقطع ، بل قد يجد ظهور معنى شخصٌ ويظهر لغيره آخَرُ ، وأيّ قطع يبقى مع ذلك ؟ ومن مناط الاختلاف في الفتاوى ظهور معنى لواحدٍ غيرِ ما يظهر للآخر ونحوه . وبالجملة ، فإثبات ذلك دونه خَرْطُ القَتادِ .
نعم ، قد يقال : إنّ اللّه سبحانه أرسَلَ الرسل وأنزلَ الكتب ونَصَبَ الأوصياء بعد إعطاء العقول ليأخذ الناس منهم على سبيل الجزم والعلم ولو كان في ذلك مشقّة ، بل لو اتّفق الناس على ذلك لتواترٍ ووَصَلَ إلى المكلّفين العلم القطعي من غير مشقّة تمنع من ذلك ، فقد أعطاهم اللّه السبيلَ إلى ذلك ، ودَلَّهم عليه ، وقد وقع التقصير من المكلّفين : أمّا مع حضورهم عليهم السلام ، فبعدم الرجوع إليهم في كلّ ما لم يحصل لهم العلم من المعاني المقصودة والأحكام الحقيقيّة ونحوها ، وأمّا مع غيبتهم ، فبالتقصير في حقّهم من العباد الموجب لغيبتهم وحجبهم عنهم ؛ فالتقصير مستندٌ إلى المكلّف . ومن لم يدخل في التقصير ، فاللّه تعالى أولى بالعذر .
وأمّا اللّه سبحانه فقد نصب لهم الدليل ودلّهم على طريق العلم ، وحيث وقع التقصير فلم يتيسّر العلم لكلّ أحد ، وصار المدار على الظنّ غالباً من حيث إنّ الأمر راجع إليهم عليهم السلام ، فلعلّ اللّه تعالى من عفوه وكرمه يكون راضياً منهم بالتكليف على هذا النحو ؛ لعدم إمكان التوصّل غالباً إلى غيره وعدم تقصير من لم يمكنه الأخذ على سبيل الجزم ، فإنّه بالنسبة إليهم يكون تكليفاً بما لا يطاق فيما لا يعلم من القرآن ونحوه .
والرخصة في مثل أعمال الخير ، وإنّ العامل بها مأجور وإن لم يكن على ما بلغه قد يستانس بها لذلك لا على سبيل القياس ، بل من حيث إنّها تقتضي جواز العمل بما ليس من أحكام اللّه في الواقع مع عدم التقييد بتحصيل العلم مع إمكانه وعدمه .
ونحوه ماورد من أنّهم عليهم ذكر الاُصول وعلينا التفريع . ۲ فإنّ مثل ذلك لايكاد ينفكّ عنه تجويز الخطأ ، فلا يلزم المكلّف معرفة حكم اللّه في الواقع دائماً .
وحاصل الكلام : أنّ الإنسان مكلّف بالأخذ عنهم عليهم السلام بقدر ما تصل إليه طاقته ، وهذا المقدار يكفيه ، فإن أمكن العلم الجازم لا يعدل عنه إلى غيره ، وإلاّ فالعلم المتقدّم . ومن لم يفعل ذلك ، كان على غير يقين وبصيرة ، وأخذ عن مجرّد عقله ورأيه مع المنع من ذلك ؛ واللّه تعالى أعلم .
ويحتمل أن يكون مراده تأدية الفرائض التي تتعلّق باُصول العقائد من معرفته تعالى ومعرفة أنبيائه ورُسُله والأوصياء ونحو ذلك ، فإنّ مثله يجب معرفته على سبيل العلم واليقين ؛ فتأمّله .