باب الكون والمكان
في حديث [أحمد بن محمّد بن] أبينصر ۱
قوله عليه السلام : (إنَّ اللّه َ تَبارك وتعالى أيَّنَ الأيْنَ ...) .
المعنى ـ واللّه أعلم ـ أنّ اللّه تعالى خلق الأين والزمان ، فهما خَلْقان من خَلْقه ، والخالق سابق على المخلوق ، فهو سابق على الزمان ، ولم يكن زمان قبل هذا الزمان الحادث ، فلا يسأل بأنّه في أيّ زمان كان ، وكذا جميع الكيفيّات خَلْقٌ مِن خَلْقه ، حادثةٌ بعد العدم ، ولم يكن قبلها كيفيّة فيتكيّف بها ، فعلم أنّه تعالى مُنزَّه عن جميع الكيفيّات ؛ لأنّها كلّها خلْقه وخارجة عنه .
في حديث أبيبصير ۲
قوله عليه السلام : (إنّما يُقالُ لشيءٍ لم يَكُنْ : متى كانَ ، ...) .
لمّا قال له السائل : أخبرني عن ربّك متى كان؟ أجابه عليه السلام بأنّه إنّما يسأل عن الحادث المسبوق بالعدم : متى كان ، واللّه تعالى قديم أزليّ ، ليس مسبوقا بعدم حتّى يسأل عنه بأنّه متى وجد؟
قوله عليه السلام : (إنَّ رَبّي تَباركَ وتَعالى [كان ولم يزل حيّا بلا كيف]) .
تركيب هذه العبارة ـ واللّه أعلم ـ هكذا : إنّ ربّي تبارك وتعالى كان ولم يزل حيّا وهو بلا كيف .
قوله : (ولم يَكُنْ له) .
أي عدم الكيف ليس حاصلاً له الآنَ ، بل لم يكن له كيف أبدا .
ثمّ قال عليه السلام : (كانَ ، ولا كانَ لكَوْنِه كَوْنُ) .
المعنى ـ واللّه أعلم ـ : كان ولا كان لكونه كون ككوننا،وهو الحدوث بعد العدم.
ثمّ قال عليه السلام : (كيفٍ ، ولا كانَ له أيْنٌ) .
أي لكونه ، أي كوننا له ابتداء وانتهاء ، فله أينٌ معلوم مخصوص ، واللّه تعالى ليس له أين ؛ لأنّه كان قبل الأين ، والأين خَلْقٌ مِن خَلْقه حادثٌ ، فكيف يكون له كونٌ ككوننا وليس له أين؟!
قوله عليه السلام : (ولا كانَ في شيءٍ ، ولا كانَ على شيءٍ) .
أي لوكان له كون ككوننا احتاجَ إلى أن يكون له مكان يحلّ فيه ؛ لاحتياج كوننا إلى أن يكون في مكان ، واللّه تعالى ليس في شيء ولا على شيء ؛ لأنّه كان قبل جميع الأشياء .
ثمّ لمّا كانت هذه الكلمات البليغة الدالّة على أنّه لا مكان له دليلُها أنّه كان قبل المكان ، والمكان خلق من خلقه ، ولم [ ...] كونه تعالى خلق مكانا للكون فيه ، قال عليه السلام : (ولا ابْتَدَعَ لمكانِه مكانا) أي ولا ابتدع مكانا ليكون مكانه .
قوله عليه السلام : (ولا قَوِيَ [بعدما كوّن الأشياء] ...) .
أتى به للدلالة على أنّ صفاته كلَّها قديمة أزليّة ليست بحادثة .
قوله عليه السلام : (ولم يَزَلْ۳حَيّا بلا حَياةٍ) .
أي ليس وصفه بالحياة لكون الحياة حالةً فيه كوصفنا بها .
قوله عليه السلام : (ومَلِكا قادِرا قَبْلَ أن يُنْشِئَ شَيْئا) .
دليله ظاهر ؛ لأنّه أنشأ الأشياء كلّها وهي معدومة بأجمعها ، ولم يكن وقتَ إنشائها وابتداعها شيء حتّى يشكّ في أنّ الإنشاء هل كان بمعونة بعض تلك الأشياء ، بل يعلم قطعا أنّه أنشأها بحوله وقوّته .
قوله عليه السلام : (ومَلِكا جَبّارا بعد إنشائه للكَوْنِ) .
لا دلالة لكونه جبّارا بعد إنشائه للكون إلاّ على ثبوت هذه الصفة له في ذلك الوقت ، وأمّا كونه جبّارا قبل ذلك فمسكوتٌ عنه هنا ، لكن يدلّ عليه قوله عليه السلام : «وملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا» ؛ لأنّ الجبر فرع القدرة ، وإنّما صرّح به لئلاّ يتوهّم أنّه بعد إيجاد الخلق سلّم الأمر إلى بعض مخلوقاته ورفع يده من الملك والتدبير ، كما يؤول إليه كلام بعض الحكماء في إثبات العقول .
قوله عليه السلام : (فلَيْس لكونِه كَيْفٌ) .
أي إذا عُلم أنّ الأشياء كلّها أنشأها بقدرته ، وأنّ الكيف والأين من جملة الأشياء ، دلّ هذا على أنّه ليس لكونه كيف وأين ؛ لأنّه تعالى سابق عليهما ، وهما خَلْقان من خَلْقه .
قوله عليه السلام : (ولا له حَدٌّ) .
أي وعلم أنّه ليس لكونه حدّ ، أي ابتداء وانتهاء ؛ لأنّه لو لم يكن كذلك كان حادثا ،و إذا كان حادثا وُصف بعدم الحياة في بعض الأوقات .
ويحتمل كونه معطوفا على «لم يزل» بناء على جواز عطف الاسميّة على الفعليّة ، وكون الواو للابتداء ، والمعنى : لايمكن حدّه .
قوله عليه السلام : (ولايُعْرَفُ [بشيء يُشبِهُه]) .
التعريف أعمُّ من الحدّ . أي أنّه تعالى لايُعرف بشيء يشبهه ؛ لأنّه ليس له شبيه حتّى يعرف به ، ولا يخفى على من أنعم النظر أنّ المكرّرات ليست لمجرّد التأكيد من دون تأسيس .