261
حكم النّبيّ الأعظم ج6

3 ـ زمان البراءة من المشركين ومكانها

ممّا لا ريب فيه أنّ البراءة من المشركين ليست محدودة بزمان أو مكان معيّنين بل يجب على المسلمين ، في كلّ زمان ومكان ـ حيثما تقتضي الضرورة ـ إعلان براءتهم الفرديّة والجماعيّة من المشركين . ولا مراء أنّه إذا حدّد وليّ أمر المسلمين زمانًا ومكانًا واُسلوبًا معيّنًا لأداء هذه الفريضة فإنّ إطاعة وليّ الأمر هنا تكون واجبة .
بيد أنّ المسألة المهمّة هي : أيّ مكان وأيّ زمان أنسب وأجدر لإظهار مسلمي العالم براءتهم العامّة من المشركين ؟ يمكن القول إنّ بيت التّوحيد هو المكان الأنسب ، وإنّ موسم الحجّ خير زمان لإظهار مسلمي العالم براءتهم من الشّرك والمشركين . يقول الإمام الخمينيّ ـ رضوان اللّه تعالى عليه ـ في هذا السّياق :
«أيّ بيت أجدر من الكعبة وبيت الأمن ۱ والطّهر ۲ والناس ۳ لمجانبة العدوان والظلم والاستغلال والاسترقاق والضّعة واللّاإنسانيّة ، في القول والعمل ، ولتجديد ميثاق «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ»۴ ، ولتحطيم الآلهة والأرباب المتفرّقين ۵ ، ولإحياء واستذكار أهمّ وأعظم حركة سياسيّة للنبيّ صلى الله عليه و آله في «وَأَذَ نٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَْكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ»۶ ؛ ذلك أنّ سنّة النّبيّ صلى الله عليه و آله وإعلان البراءة لا تَبلى . وليس إعلان البراءة مقصورًا على أيّام ومراسم بعينها ، بل ينبغي على المسلمين أن يملؤوا آفاق العالم كلّها بمحبّة ذات اللّه وبعشقه ، وبالنّفرة والبغض العمليّ لأعداء اللّه ...
وعلى أيّ حال ، إنّ إعلان البراءة في الحجّ هو تجديد ميثاق المكافحة وتدريب على تشكيل المجاهدين لاستمرار محاربة الكفر والشّرك وعبادة الأوثان . وهذا لا يتلخّص بالشّعار وحده ، بل هو بداية إعلان منشور المقارعة والتّنظيم لجند اللّه في قبالة إبليس وجنوده ، وهو من الاُصول الأوّليّة للتّوحيد . وإذا لم يُظهر المسلمون البراءة في بيت النّاس وبيت اللّه ... فأين يمكن أن يظهروها ؟ ! وإذا لم يكن الحرم والكعبة والمسجد والمحراب خندقًا ومأمنًا لجنود اللّه وللمدافعين عن حِمى الأنبياء وحرمتهم ... فأين يكون إذن مأمنهم وملجؤهم ؟ !
وزبدة المقال : إنّ إعلان البراءة هي المرحلة الاُولى للمقارعة ، وإنّ تواصلها مرحلة اُخرى ، وهو تكليفنا . إنّ البراءة ـ في كلّ عصر و زمان ـ تتطلّب منّا مظاهر وأساليب ومناهج متناسبة ، وينبغي أن نرى ماذا علينا أن نعمل في عصر مثل عصرنا الّذي ألقى فيه رؤوس الكفر والشّرك كلّ ما للتّوحيد في المخاطر واتّخذوا من كلّ المظاهر الوطنيّة والثّقافيّة والدّينيّة والسّياسيّة لعبة لأهوائهم وشهواتهم ؟
أعلينا أن نقعد في بيوتنا ساكتين عن التّحليلات الغالطة وعن إهانة مقام الإنسان ومنزلته ، وعن بثّ روح العجز والضّعف بين المسلمين ، ممّا يقوم به الشّيطان وأبناء الشّيطان ، ونمنع المجتمع من الوصول الى الخلوص الّذي هو غاية الكمال ونهاية الآمال ... متصوّرين أنّ مجاهدة الأنبياء للأوثان وعبَدة الأوثان لا يتعدّى مجاهدة الحجارة والأخشاب المجرّدة من الرّوح ، وأنّ الأنبياء ، من مثل إبراهيم ، قد عمدوا إلى تحطيم الأوثان ، لكنّهم ـ نعوذ باللّه ـ وقفوا إلى جانب الظّالمين متخلّين عن ساحة الجهاد ؟ ! والحال أنّ كلّ ما قام به إبراهيم من تحطيم الأصنام ومن المقارعة والمحاربة للنّمروديّين وعبَدة القمر والشّمس والنّجوم ... إنّما هي مقدّمة لهجرة كبرى . وكلّ ما صنعه من هجرة ، والتّحمّل للمشاقّ ، والسّكن في «وادٍ غير ذي زرع» ، ۷ وبناء البيت ، والتّضحية بإسماعيل ... إنّما هي مقدّمة للبعثة والرّسالة الّتي كرّر فيها خاتم الأنبياء خطاب أوّل وآخر بُناة الكعبة ومشيّديها ، وأبلغ رسالته الأبديّة بكلمات أبديّة : «إِنَّنِى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ » . ۸
وإذا فسّرنا البراءة بغير هذا فلا أوثان في زماننا المعاصر أصلا ً . تُرى أيّ إنسان عاقل لم يتعرّف على الوثنيّة الجديدة في أشكالها وتزويرها ومكائدها ، ولا علم له بسلطة بيت الأوثان ـ كما هو البيت الأسود [في واشنطن] ـ تتحكّم على البلدان الإسلاميّة ، وعلى دماء المسلمين وأعراضهم ، وعلى العالم الثّالث ؟ !» . ۹

1.راجع البقرة : ۱۲۵ .

2.راجع الحجّ : ۲۶ .

3.راجع آل عمران : ۹۶ .

4.راجع الأعراف : ۱۷۲ .

5.راجع يوسف : ۳۹ .

6.التوبة : ۳ .

7.إبراهيم : ۳۷ .

8.الأنعام : ۱۹ .

9.نبذة من بيان الإمام الخمينيّ قدس سره لزائري بيت اللّه الحرام ، في الأوّل من ذي الحجّة الحرام ۱۴۰۷ ه . ق .


حكم النّبيّ الأعظم ج6
260

2 ـ الأديان الإلهيّة والبراءة من المشركين

كان إبراهيم خليل الرحمن ـ على نبيّنا وآله وعليه السّلام ـ أوّل الأنبياء جهرًا بالبراءة من الشّرك والمشركين ـ بحيث دعا القرآن المسلمين إلى الاقتداء بهذا النّبي العظيم بقوله : «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَ هِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَ ؤُاْ مِنكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ»۱ ـ واحتذت الاُمّة الإسلاميّة في إعلان البراءة من المشركين حذو هذه الاُسوة النّبويّة في التّاريخ ، والنّاظر في القرآن الكريم يجد فيه أنّ البراءة من المشركين أحد ركنَي التّوحيد الأصيلَين ؛ حيث قرن دعوة الأنبياء إلى التّبرّي من الطّاغوت إلى جوار دعوتهم إلى عبادة اللّه «وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِاعْبُدُواْ اللَّهَ وَ اجْتَنِبُواْ الطَّـغُوتَ » . ۲
و«الطّاغوت» لا ينحصر بالأوثان والأنصاب الّتي اصطُنِعت واتُّخذت في عصر الجاهليّة ، بل إنّ أجلى مظاهر الطّاغوت هو تلك السّلطات المشركة الّتي تسوق المجتمع إلى وجهة مغايرة لوجهة أنبياء اللّه تعالى . وهذا قول الصّادق عليه السلام في بيان معنى الطّاغوت في الآية السّابعة عشرة من سورة الزّمر : «وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّـغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا» : من أطاع جبّارًا فقد عَبَده . ۳
والمهمّة الأساسيّة هو التّعرّف على المؤامرة المعقّدة الّتي حيكت في تاريخ المسلمين للتّستّر على أجلى مظاهر الطّاغوت والشّرك ، لئلّا تشعر المجتمعات الإسلاميّة الخطر من هذه النّاحية ، فتظلّ نظرتها إلى البراءة من المشركين حبيسة في نطاق البراءة من أصنام عصر الجاهليّة الاُولى . وقد كشف الإمام الصّادق عليه السلام ـ في عصره ـ عن هذه المؤامرة الخطرة ، وأعلن بصوتٍ جهير : «إنَّ بَني اُمَيَّةَ أطلَقوا لِلنّاسِ تَعليمَ الإيمانِ ولَم يُطلِقوا تَعليمَ الشِّركِ ؛ لِكَي إذا حَمَلوهُم عَلَيهِ لَم يَعرِفوهُ» . ۴

1.الممتحنة : ۴ .

2.النحل : ۳۶ ، وراجع الزمر : ۱۷ ، النساء : ۳۶ .

3.مجمع البيان : ج ۸ ص ۷۷۰ ، تأويل الآيات الظاهرة : ج ۲ ص ۵۱۳ ح ۵ .

4.الكافي : ج ۲ ص ۴۱۵ ح ۱ .

  • نام منبع :
    حكم النّبيّ الأعظم ج6
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق / 1387 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 169105
الصفحه من 649
طباعه  ارسل الي