359
حكم النّبيّ الأعظم ج6

بحوث حول القبلة

أ ـ بحثٌ علميٌّ

تشريع القبلة في الإسلام ، واعتبار الاستقبال في الصلاة ـ وهي عبادة عامَّة بين المسلمين ـ وكذا في الذبائح ، وغير ذلك ممّا يُبتلى به عموم الناس أحوَجَ الناسَ إلى البحث عن جهة القِبلة وتعيينها . وقد كان ذلك منهم في أوَّل الأمر بالظنِّ والحِسبان ونوع من التخمين ، ثمّ استنهض الحاجة العموميّة الرياضيِّين من علمائهم أن يقرِّبوه من التحقيق ، فاستفادوا من الجداول الموضوعة في الزِّيجات لبيان عرض البلاد وطولها ، واستخرجوا انحراف مكّة عن نقطة الجنوب في البلد ، أي انحراف الخطِّ الموصول بين البلد ومكّة عن الخطِّ الموصول بين البلد ونقطة الجنوب (خطّ نصف النهار) بحساب الجُيوب والمُثلّثات ، ثمّ عيَّنوا ذلك في كلِّ بلدة من بلاد الإسلام بالدائرة الهنديَّة المعروفة المعيّنة لخطِّ نصف النهار ، ثمّ درجات الانحراف وخطّ القبلة .
ثمّ استعملوا لتسريع العمل وسهولته الآلة المغناطيسيّة المعروفة بالحكِّ ، فإنّها بعقربتها تعيِّن جهة الشمال والجنوب ، فتنوب عن الدائرة الهنديّة في تعيين نقطة الجنوب ، وبالعلم بدرجة انحراف البلد يمكن للمستعمل أن يشخِّص جهة القبلة .
لكن هذا السعي منهم ـ شكر اللّه تعالى سعيهم ـ لم يَخلُ من النقص والاشتباه من الجهتَين جميعا . أمّا من جهة الاُولى : فإنّ المتأخّرين من الرياضيّين عثروا على أنّ المتقدّمين اشتبه عليهم الأمر في تشخيص الطول ، واختلّ بذلك حساب الانحراف فتشخيص جهة الكعبة؛ وذلك أنّ طريقهم إلى تشخيص عرض البلاد ـ وهو ضبط ارتفاع القطب الشماليّ ـ كان أقرب إلى التحقيق ، بخلاف الطريق إلى تشخيص الطول ، وهو ضبط المسافة بين النقطتين المشتركتين في حادثة سماويّة مشتركة ، كالخسوف بمقدار سَير الشمس حسّا عندهم ، وهو التقدير بالساعة ، فقد كان هذا بالوسائل القديمة عسيرا وعلى غير دقَّة ، لكنّ توفّر الوسائل وقرب الروابط اليوم سهّل الأمر كلّ التسهيل ، فلم تَزَل الحاجة قائمة على ساق ، حتّى قام الشيخ الفاضل البارع الشهير بالسَّردار الكابُليّ ـ رحمة اللّه عليه ـ في هذه الأواخر بهذا الشّأن ، فاستخرج الانحراف القِبليّ بالاُصول الحديثة ، وعمل فيه رسالته المعروفة ب «تُحفة الأجلّة في معرفة القبلة» . وهي رسالة ظريفة بيّن فيها طريق عمل استخراج القبلة بالبيان الرياضيّ ، ووضع فيها جداول لتعيين قبلة البلاد .
ومن ألطف ما وفِّق له في سعيه ـ شكر اللّه سعيه ـ ما أظهر به كرامة باهرة للنبيّ صلى الله عليه و آله في محرابه المحفوظ في مسجد النبيّ بالمدينة .
وذلك أنّ المدينة على ما حاسبه القدماء كانت ذات عرض 25 درجة وطول 75 درجة [و ]20 دقيقة ، وكانت لا توافقه قبلة محراب النبيّ صلى الله عليه و آله في مسجده ، ولذلك كان العلماء لا يزالون باحثين في أمر قبلة المحراب ، وربّما ذكروا في انحرافه وجوها لا تصدّقها حقيقة الأمر ، لكنّه رحمه اللهأوضح أنّ المدينة على عرض 24 درجة [و] 57 دقيقة وطول 39 درجة [و ]59 دقيقة وانحراف صفر درجة 45 دقيقة تقريبا ، وانطبق على ذلك قبلة المحراب أحسن الانطباق ، وبدت بذلك كرامة باهرة للنبيّ في قبلته التي وَجّه وجهَه إليها وهو في الصلاة ، وذكر أنّ جبرئيل أخذ بيده وحوّل وجهه إلى الكعبة ، صدق اللّه ورسوله .
ثمّ استخرج بعده المهندس الفاضل الزعيم عبدالرزاق البغائريّ رحمة اللّه عليه قبلة أكثر بقاع الأرض ، ونشر فيها رسالة في معرفة القبلة ، وهي جداول يذكر فيها ألف وخمسمئة بُقعة من بقاع الأرض ، وبذلك تمّت النعمة في تشخيص القبلة .
وأمّا الجهة الثانية ـ وهي الجهة المغناطيسيّة ـ : فإنّهم وجدوا أنّ القطبَين المغناطيسيَّين في الكرة الأرضية غير منطبقَين على القطبين الجغرافيّين منها ؛ فإنّ القطب المغناطيسيّ الشماليّ مثلاً على أنّه متغيّر بمرور الزمان بينه وبين القطب الجغرافيائيّ الشماليّ ما يقرب من ألف ميل ، وعلى هذا فالحكّ لا يشخّص القطب الجنوبيّ الجغرافيّ بعينه ، بل ربما بلغ التفاوت إلى ما لا يُتسامح فيه . وقد أنهض هذا المهندس الرياضيّ الفاضل الزعيم حسين علي رزم آرا في هذه الأيام وهي سنة 1332 هجريّة شمسيّة على حلّ هذه المعضلة ، واستخراج مقدار التفاوت بين القطبَين الجغرافيّ والمغناطيسيّ بحسب النقاط المختلفة ، وتشخيص انحراف القبلة من القطب المغناطيسيّ فيما يقرب من ألف بقعة من بقاع الأرض ، واختراع حكّ يتضمّن التقريب القريب من التحقيق في تشخيص القبلة ، وها هو اليوم دائر معمول ـ شكر اللّه سعيه ـ . ۱

1.الميزان في تفسير القرآن : ج ۱ ص ۳۳۵ ـ ۳۳۷.


حكم النّبيّ الأعظم ج6
358
عدد المشاهدين : 196733
الصفحه من 649
طباعه  ارسل الي